لن أنسى ذلك اليوم المشؤوم، كان صعباً من أوله، لقد انتزعتني أمي من دفء الفراش وجرتني كما تجر الشاة إلى الذبح، ثم وضعت رأسي تحت حنفية الماء البارد المفتوحة على آخرها، ولن أنسى كم بكيت قبل عملية الغسل وبعدها، ولن أنسى أيضاً القميص البارد الذي ألبستني إياه، أما الحذاء المطاطي ذو الرباط الطويل فقد تركتني أرتديه لوحدي وذهبتْ لتصريف شؤون أخواني وأخواتي الآخرين، وحالما أصبحتُ جاهزاً أشعرتُها بذلك، ففكّت عقدة الشرشف الذي تخبئ به الخبز وأخرجتْ منه قطعة كبيرة تقارب النصف رغيف، ناولتني إياها، فقضمت منها لقمة واحدة ووضعت بقيتها في كيسي القماشي - والحقيقة أنني لم أذق خبزاً شهياً بعد خبز أمي - أحضرتْ حبتيّ بندورة وبيضةً مسلوقة ووضعتها جميعها في الكيس الذي كانت تسميه حقيبة، أغلقتْه، ثم قبّلتني، مسحتْ رأسي وقالت لي: هيا، احمل حقيبتك وانطلق إلى مدرستك.
بدأ اليوم الدراسي كأي يوم عادي، اصطففنا – نحن الطلاب- في الطابور الصباحي، وصدَحتْ حناجرنا الغضة بالأناشيد المدرسية التي حفظناها منذ الصف الأول، ثم دخلنا إلى الغرف الصفية، وجلسنا في مقاعدنا؛ كل أربعة في مقعد واحد. واستمرينا على هذا الحال؛ بين قراءة وكتابة ورسم وحساب وكلام وضحك، حتى انتهاء الحصة الخامسة التي كانت بانتهائها تُنهي الفترة الأولى من اليوم المدرسي الطويل، إذ تليها استراحة الغداء التي تعقبها حصتان. وحلما قرع الجرس انطلق الطلاب كأنهم عصافير فرت من أقفاصها، واندفعوا إلى باب المدرسة ثم إلى بيوتهم لتناول الغداء قبل العودة لاستكمال الحصص. أما أنا، وبضعة من الطلاب القاطنين في المناطق البعيدة عن المدرسة فكنّا نقضي فترة الاستراحة في المدرسة، لذلك فقد تباطأتُ في الخروج من غرفة الصف، وحالما شعرت أن المدرسة أصبحت خالية من الطلاب تقريبا فتحت الكيس وأخرجت البيضة وحبتي البندورة وقطعة الخبز ووضعتها كلها على سطح الطاولة أمامي، ولكن حظي العاثر جعل يدي تصطدم بإحدى حبتي البندورة فتدحرجت ووقعت على الأرض، تناولتها، فكرت قليلا ثم قررت أن تكون حبة البندورة نظيفة فحملتها ثم حملت الحبة الثانية لكي أغسلهما معا، قلت لنفسي لم لا أحمل البيضة معهما وأغسل وجبتي كلها !. وهكذا فعلت، حملت وجبتي كلها ما عدا قطعة الخبز - فقد نسيتها – ثم خرجت إلى مجمع الحنفيات الشبيه بمذود العلف الذي تتجمع أمامه الأغنام، إنه مجاور لغرفة الأذنة - في الواقع كانا آذنين فقط، هما أبو مطاوع العابد وأبو رافع الشانق - فتحت الحنفية الأولى وهي الأقرب إلى باب غرفتهما الذي كان أحد مصراعيه مفتوحا، فتحت الحنفية، شربت قليلا من الماء، غسلت حبة البندورة الأولى ثم الثانية. فكرت قليلا، قلت لنفسي : لم لا أجلس بجانب الحائط قريبا من الحنفيات لكي أتناول غدائي ، فهذا يمكنني أن أشرب من ماء الحنفيات عندما أعطش، تذكرت أنني نسيت قطعة الخبز في الصف فتركت حبتي البندورة والبيضة أمام الحنفية وركضت باتجاه غرفة الصف، تناولت قطعة الخبز وعدت مسرعا إلى حيث تركتُ غدائي، نظرت فلم أجد شيئا ، تلفت يمنةً ويسرة، ثم نظرت حيث تتساقط المياه على المجرى الذي يقودها إلى المنهل الكبير، لم أجد أثراً لطعامي، يا ألهي ماذا حصل؛ لا يوجد أي طالب غيري في ساحة المدرسة، أين ذهب الغداء !!، نظرت إلى غرفة الأذنة، ثم تقدمت ونظرت في ظلامها، فلم أرَ شيئاً ولكنني سمعت صوت (الشانق) يصرخ كعادته: نعم، ماذا تريد؟
قلت: أريد غدائي؟
قال: لا يوجد عندنا غداء.
قلت: لقد تركته أمام الحنفية،
قال: اذهب.
عدت وبحثت مرة أخرى لعلي أجد شيئا، لكنني بؤت بالفشل، جلست بجانب الحائط، نهشت من قطعة الخبز بضعة قضمات على الرغم من أنني كنت أزدردها بصعوبة بالغة. ثم فجأة خرج العابد من غرفة الأذنة وهو يأكل إحدى حبتي البندورة التي فقدتهما، نعم، لقد كان يأكل وينظر إلي، كانت عيناه تقولان لي: ها هي وجبتك نتمتع بها، ولا تستطيع أن تفعل شيئا. شعرت بالضعف والغضب، إذ أنني لا أستطيع أن أطالب بشيء، وبقيت جالساً بجانب الحائط، يكللني كل ما في العالم من عجز و انكسارٍ وأسى وقهر.
بدأ الأولاد يعودون من بيوتهم وبدأت أصواتهم تتعالى شيئا فشيئا، وبدأت ألوان ملابسهم تتراءى لي، لكنني كنت في عالم آخر، أكاد لا أراهم ولا أسمعهم.
فجأة سمعت صوت جهاد صاحبي وشريكي في المقعد منذ الصف الأول وحتى الصف الخامس الابتدائي، قال لي: ماذا تفعل؟
فقلت له : كما ترى لا شيء.
قال: كأن أحدا أغضبك؟
فقلت له بحروف متقطعة يخالطها البكاء: لقد سرقوا غدائي.
قال: من؟
قلت: العابد والشانق، وضعت الغداء عند الحنفية فسرقاه، وعندما سألتهما أنكراه، بل أنهما انتهراني وكادا يضرباني.
سكتَ قليلا ثم قال: لم لا تشتكيهم للمدير!!َ!
قلت: أخاف أن لا يصدقني.
قال : اشتكِ، ولا يستطيعان أن ينكرا أمامه، فشخصيته قوية، اذهب إليه الآن، إنه في غرفة الإدارة.
واستمر جهاد في تشجيعي إلى أن وصلت إلى باب مكتب المدير، نظر إليّ قائلا: نعم؟ هل هناك شيء؟
فقلت : لقد سرقوا غدائي.
قال :من؟
قلت: الأذنة.
قال: كيف؟
شرحت له ما جرى، فقال: كيف عرفت أنهما سرقاه؟ ربما أكلتَه أنت، أو ربما أخذه أحد من الطلاب.
قلت : لم يكن في الساحة غيري، ولم يكن في المدرسة كلها موظف غيرهما.
سكتَ لحظة ثم قال: اذهب إلى صفك وسوف أنظر في الأمر.
دخل الطلبة إلى الغرف الصفية ، وعند منتصف الحصة جاء واحد من الطلاب ، طرق الباب وقال للمعلم : المدير يريد الطالب أيوب. أشار المعلم لي بسبابته قائلا: ماذا فعلت؟
قلت: لا شيء.
قال: اذهب.
عندما اقتربت من باب غرفة المدير رأيته جالسا خلف طاولة المكتب ، ورأيت الآذن (الشانق) واقفا في وسط الغرفة، كان ينظر إليّ بعيني حادتين كعيني كلب مسعور ، وحالما رآني المدير تناول عصا الخيزران الطويلة من تحت طاولة المكتب، انتصب واقفا صرخ بي : تعال. لقد اتهمت موظفيْن بالسرقة دون أي دليل، وقد أنكرا ذلك، أحذرك من العودة إلى مثل هذا السلوك.
وقبل أن أفتح فمي بكلمة واحدة انهال عليّ بالعصا إلى أن تكسّرت، لقد كانت رغبتي بالبكاء شديدة، لكنني قاومتها، بقيت صامتا لا أرى شيئا ولا أسمع شيئا إلآ صوت المدير وصوت العصا وهي تنهش من أطرافي. سمعته أخيراً وهو يقول: انصرف إلى صفك.
غادرت المكتب، وحالما وصلت - ربما بشكل غريزي- دفعت باب الصف، توجهت نحو المقعد مسرعاً، جلست في مكاني، كان المعلم صامتاً، وكان الطلاب صامتين أيضا، كانوا جميعاً ينظرون إلي، وكان صديقي جهاد بجانبي حانقاً، مطأطِئاً، مُحْمرّ الوجه والأذنين، وكان مثلي، ومثل الجميع؛ لا يقول شيئا.
_____
مقالات تهمّك
محمود البنا/ إضاءة وتجوال داخل رواية خرافة الياسمين / ل شاكر نواصره
حوارية الإبداع الأدبي بين الموهبة والصناعة في بيت الثقافة
موسيقى على الأرجح / للشاعر عبد اللطيف الوراري
إرسال تعليق