-->

عرض مكثف لمجموعة "لوحات لم يرسمها فان كوخ" / بقلم الروائي محمد فتحي المقداد

تم نشر الموضوع في

 

 

عرض مكثف

لمجموعة "لوحات لم يرسمها فان كوخ" للكاتب "نجيب كيالي". سوريا

 

بقلم. محمد فتحي المقداد

 

زمن القراءة بحاجة لأنفاس مليئة بالأوكسجين، تكون صبورةً على وقت تتبُّعِ لوحات لا هي جدارية، ولا هي على قماش سكبَ فيها التشكيلي ألوانَ روحه، وعبقَ أنفاس عالقة مع رائحة الزيت والألوان.

إنما هي لوحاتٌ رَسمَها فنان من طراز آخر، فنان متمكن، ممسك بأدواته بحرص شديد، متقن لصنعته بدرجة الأستاذية. هذا هو "نجيب كيالي"، الكاتب الكيالي يرسم بحروفه وكلماته أجملَ المعاني الإنسانية المليئة بالحب والشغف.

وقد وصف كتابه بـ "لوحات". ولماذا لوحات؟ وما ذلك إلا ليجبرنا على مشاهدة الجمال، وللوقوف في رحابه، وللتأمل الطويل الذي يعيد توازناً  للقلب والعقل، وأخذِ فرصةٍ كافية للحكم على الأشياء بوعي تام.

أمَّا هذه "اللوحات" لماذا "لم يرسمها فان كوخ" ذلك الفنان الهولندي العالمي، والمُصنَّف كأحد فناني الانطباعية، وتُعتَبر رسوماتُه من أكثر القِطَع الفنية شهرةً وشعبية وأغلاها سعراً في العالم، وقد عانى من نوبات مرض عقلي متكررة، بعدها اتجه للرسم التشكيلي للتعبير عن مشاعره وعاطفته. في آخر خمس سنوات من عمره.

أمَّا "نجيب كيالي" فيبدو أنه يريد أن يقول لنا: "بأنَّ مجموعتي القصصية  لوحات فائقة الوجع تضاهي بما فيها لوحات "فان كوخ" بما فيها من ألم إنساني، كما أنني عندما كتبتُها كنتُ متوهجاً، وبكامل وعيي وقدراتي الذهنية، مليئة بالعواطف والمعاني الحقيقية التي لا تحتاج لكثير من التأويل والتخمين في مقاصدها، وأتمنى وصول رسائلي  الفكرية بأبعادها النقدية والإصلاحية على بساط من الوضوح والنضوج، إنه تيار الوعي في زمن التهاوي والرداءة الأدبية الرخيصة التي تحاكي الغرائز، والمُجدّفة في تيار تخريب المعتقدات والعادات والتقاليد، وتتفيه الثوابت بجميع أشكالها.

وفي مرحلة الذهاب لنص "لوحات لم يرسمها فان كوخ" فإنه بلا شك نص فارق بفكرته وتعبيره، وفي تعليل الكاتب  لسبب اختياره لهذه الجملة المفيدة الممتلئة المبنى والمعنى، لتكون عنواناً للمجموعة القصصية: (هي ثلاثة مَشَاهد من حرب داخلية شَهِدها بلد عربي، حين اطلع عليها رسام)، ولفظاعة المَشَاهد (رفع يديه قائلاً: أنا عاجز عن رسمها.. عاجز تماماً. وأضاف: حتى فان كوخ الذي كان بارعاً في تصوير العذاب والألم سيرمي ريشته أمامها لو رآها) يا لروعة التصريح الواضح من الكاتب الذي يريد إقناع قارئه بقساوة الجرائم والانتهاكات.

أمَّا هذه المشاهد فهي صور متكررة تداولتها الألسن نقلاً عمَّن شهد ذلك بأم عينه، ومن الضحايا الذين تجرؤوا على الوقوف بشجاعة للإعلان عن الانتهاكات غير المُتخيّلة، ففي هذه المشاهد حسبما وردت في النص، يتضح الغضب والاستنكار بجلاء ووضوح:

(المشهد الأول : امرأة حامل، يهجم عليها جندي، يشقُّ بطنها بالحربة يُخرج الجنين، يُريها إيَّاه وهي تتخبط، ثم يقذفه داخل ماكينة فرم اللحم الكهربائية قبل أن يقتلها!)

(المشهد الثاني: أب يحاول الجنود إجباره على اغتصاب ابنته، وحين يرفض، يقطعون عضوه، ويضعونه في فمه، ويتناوبون هم عليها صائحين بالأب انظر .. يا محلول، هكذا الشغل).

(المشهد الثالث : رجل مع طفله يشتري من عربة خضار، تندفع نحوه دبابة تدوسه هو وطفله والبائع ثم يُخرج السائق رأسه، ويضحك متجهاً إلى عربات أخرى!).

فإذا قال الكاتب فصدّقوه، فالقول ما قال، لأنه يحكي بواطنه فيما بين السطور، وما خلفها، وهو يتحسس مشاكل بلاده وشعبها الذي يُضام بعشرات الوسائل.. حرمان من الحرية، إفقار، جوع، سجون ومعتقلات، فرم أصابع، شمع أحمر على العقول، والكاتب وكل كاتب- بلا شك- أنه حالة متقدمة في تأثره الداخلي بما يحصل بمحيطه، ولا يدع ضميره نهباً للخوف والكذب والتدليس على الآخرين.

لِنُلقِ نظرةً على قصة أخرى في الكتاب، هي: (سيرةُ عينين)، هذه القصة مكتظة بالحزن، لكنها تفتح أفقاً على بهاء الفن، فنجد أنفسنا أمام متعة مميزة. بطلة القصة: صوفي تصل لأوروبا بساقٍ مقطوعة، بسبب الحرب، فلا تستطيع أن تتمتع بالمباهج، ولأنَّ عينيها تذرفان كثيراً، تقرر أن تحتفظ بالمناديل التي تمسح بها دمعها، وتكتب على كل منها سببَ بكائها، فكرةٌ طريفة لا شك، وبعد عامين تجمَعُ المناديل داخل غلاف، وتضع عليها عنوان سيرة عينين.

عموماً.. في هذا الكتاب لوحات أدبية دقيقة التأشير والتنبيه لقضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية، رسمها الكاتب على محمل لغة راقية خبيرة، لغة تنثر بساطتها بتعابير دقيقة بدلالات ذاتِ مَغَازٍ حيوية ببعدها الحداثي، ترسل رسائلها وإشاراتها للمتلقي المثقف والعادي.

الحبّ والحرب، والفقر والحاجة، الحرية والديمقراطية، الآمال والأحلام والطموحات، والخذلان والفشل، واليأس والإحباط، والنجاح والسموّ الروحي والنفسي، والموت والحياة، والقلق الوجودي، واحتمالات الفناء بسبب تطاحن القوى الكبيرة على الكوكب، كلُّ هذا نطلُّ عليه في صفحاتها، وقد ناقشتْ ذلك بذكاء ورويّة، وكانت عناوين القصص شفافةً مثل: (البنت والعربة أمّ العشرة. قصص تحت رؤوس الموتى. في المقهى الأوربي. مشاجرة بين الأموات. ظل إبليس. من قصص الحب عند الكبار. الجمال ديمقراطي. ديوانة أيوب. في مهب الفناء. سفينة غامضة) بتأملٍ بسيط للدلالات القريبة والبعيدة الظاهرة والخفيَّة لهذه العناوين تتضح ماهية لوحات "نجيب كيالي" الأدبية التي أراها أنموذجاً قصصياً ناضجاً بمحتواه العقلاني، متباعداً عن البروباغندا الإعلامية وضجيجها الذي يشكِّل تشويهاً سمعياً وبصرياً، كما أنها ذاتُ بُعد إصلاحي بمؤشراته الفكرية والإنسانية الناضجة.

**

إرسال تعليق

أحدث أقدم