كثيرا ما أترك طاولتي على فوضاها .. الأوراق مبعثرة ..
وبعضها مكوم بكتل صغيرة .. والكتب فوضى متراكمة.. دائما في البيت يسألونني ما هذه
الفوضى !! فامنعهم لمس أي شيء .. وإن حاول أحدهم أن يرتبها كما هو يعتقد فإنه يجد
عقابه .. ذلك أن تلك الأوراق والكتب في حاله فوضى عارمة كما يراها الآخرون ..
ولكنها في الحقيقة مرتبة في ذهني .. اعرف كل قصاصة ورق أين تكون وأي كتاب أين
موضعه .. فما يبدو للآخرين فوضى عشوائية غير مسؤولة فإنها فوضى مرتبة .. أما
الفوضى العشوائية غير المسؤولة فهي التي أسميها فوضى سوداء تضيع فيها الأوراق والنصوص
التي كتبت عليها وتتوه فيها الكتب ، وهي فوضى تلقائية عشوائية غير مؤذية وغير
مقصودة ويمكن تسويتها ..
أما إذا كانت مقصودة فسيكون لها غاية ليست بريئة كالفوضى
الأمريكية الخلاقة وهي فوضى تفكك برامج دول وشعوب وأنظمة تراها غير ملائمة لتعيد
ترتيبها بما يخدم مصالحها الأمريكية دون الآخرين .. عانينا منه وكلفنا آلاما موجعة
ودماء كثيرة خرجنا منها بنتائج مدمرة ولم تزل .. فلم تكن خلاقة وإنما حلاقة تحلق
وتحرق كل ما هو مرتب وجميل ومناسب لنا وتلقيه في الضياع ..
وما يحدث على طاولتي يمكن إطلاقه على الفوضى الخلاقة
الصحيحة التي تفكك قوانين وأنظمة متخلفة وتعيد ترتيبها بشكل أفضل يخدم المصلحة
العامة.. وهي أيضا يمكن أن تحدث في كل ما يبرمجه مجتمعنا سواء برمجة عبثيه أو
مرتبة في كل مناحي الحياة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا..، والذي اقصده هنا
هو قراءة الفوضى العبثية الثقافية المؤذية التي تعيشها ساحتنا الثقافية الأردنية ،
وضياع ملامحها التي تضفي الجمال على واجهتنا الثقافية ..
لا يمكن هنا تحليل واقعنا الثقافي الفوضوي العبثي وإنما
الإشارة إلى أهم مفرداته ، فسهولة صناعة منابر ثقافية في وسائل التواصل الاجتماعي أوجدت كثيرا من هامشيي الثقافة ينشرون كتابات سطحية ركيكة بأساليب لغوية ضعيفة
بعضها لا يعرف أساسيات اللغة .. يزاحمون بها إبداعات الكتاب من أصحاب التجارب
المتقدمة ، كذلك سهولة ترخيص جمعيات تحمل مسمى التنمية الثقافية والاجتماعية التي
تستغل الدعم بإقامة احتفاليات علاقات عامة مستواها الثقافي ضعيف ، تدعو إليها
شعراء وشواعر هامشيين في بلادهم .. كما أن تبوّؤَ من لا علاقة جادة له بالثقافة
وجهله بخارطتنا الثقافة الأردنية ورموزها وشخصياتها الفاعلة مراكز القرار الثقافي
في البلاد ، وصرْف ما يأتيهم من دعم من وزارتي التنمية والثقافة على قيام علاقات
عامة دون أن يقدموا ما يبني مداميك جديدة على ما أسسه وبَناهُ مثقفونا الكبار
الأوائل حتى تحكم بالقرار الثقافي من يعبث بقيمة وأهمية ما بناه مثقفونا ومبدعونا
أصحاب التجارب الكبيرة .. الذين منهم من أخذهم الموت أو المرض ، أو نأوا بأنفسهم
عن هذه الفوضى العبثية السوداء فسقطوا في عالم النسيان ، ولم يعد لهم أي ذِكْر أو
تنويه على منابر الفوضى السوداء .. فمن يذكر - مثلا- فايز محمود ومحمود سيف الدين الإيراني
وعبد الرحمن ياغي وخليل السواحري وعيسى الناعوري ومحمد القيسي وغالب هلسا وعبد الرحيم عمر وإبراهيم
العبسي وتيسير سبول وخليل قنديل والياس جريس وآخرون ممن أضاءوا عتمه ساحتنا
الثقافية.. ، ومن مثقفينا الكبار من نأى بنفسه عن هذه الفوضى والتهميش .. أذكر هنا
الشاعر والمفكر إبراهيم العجلوني و القاص والناقد سليمان الأزرعي والروائي والشاعر إبراهيم نصر الله والقاص والإعلامي مصطفى صالح والشاعرة أمينة العدوان التي أخلصت
لقصيدة النثر ، والناقد الدكتور إبراهيم خليل والقاص يوسف ضمرة ومحمد ضمرة وسميح
الشريف الذي ناف عن التسعين عام من عمره المديد .. من كان سيذكره لولا لفتة عطوفة
الأستاذ أيمن عرار ومعاونيه في مديرية الثقافة بالزرقاء .. ومن يذكر الآن القاص
المرحوم عدنان علي خالد الذي كان صالون الحلاقة الذي يملكه في مدينة الزرقاء
صالونا ثقافيا يوميا ، يرتاده المثقفون الذين يحضرون يوميا بوسط هذه العتمة سواء
من الزرقاء أو خارجها في وقت غابت فيه الصالونات الثقافية ، والكاتب زياد عودة
وآخرون ضمهم إهمال فوضى العبث بالثقافة في البلاد ..
وسيكون لي حديث عن النوادي والبيوت والجمعيات الثقافية
التي قامت بدور واضح ومؤثر برغم ضعف موارها وميزانياتها ..
إرسال تعليق