-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

ثلاث قصص قصيرة جداً / ضاري الغضبان

القاص العراقي ضاري الغضبان

نحيب

اعتدنا على سماع نحيب جارتنا الأرملة أم سلام، فمنذ وفاة زوجها المُكنى كذلك بأبي سلام، وهي لم تنفك عن النحيب كل صباح، حتى صار هذا البكاء توقيتاً لنا لتحديد دخول النهار، حاولتْ معها بعض الجارات؛ بأنْ تتوقف عن عزف سمفونية الحزن الدائم، لكنها لم تستجب، رغم أنَّ سنوات تسع مرّت على رحيل زوجها.

أدمنا هذه الحالة، وفسرها الجيران من باب الوفاء للرجل الذي تزوّج منها رغم معارضة أهله آنذاك؛ لأنّها عرجاء! وهذا العرج كان حجة أولاً قبل أن يقترن بتهمة عدم الإنجاب بعد الزواج من الرجل الوسيم، والذي تمنّى بأنْ تلد له ولداً يسميه سلاماً، لكن القدر سبقه، ومات بشظايا مدفع هاون خلال حرب عبثية...
على خلاف العادة؛ توقف لأوّل مرّة نحيب أم سلام في صباح ممطر، فتوقع الجميع بأنها تبعت زوجها الوسيم، وتجمعتْ الجارات إزاء باب بيتها، ولم تفتح لطرقهن المكرّر، فتبرعنا ـ نحن الشباب ـ بالقفز فوق الباب؛ لمعرفة مصير السيدة المتوقفة عن النحيب.
وحين دلفنا لصالة جلوس نحيبها؛ وجدناها جالسة بهدوء وتبتسم بحبور شديد، وهي ترقد رقدتها الأبدية بسلام وتحتضن أحد دفاتر مذكرات زوجها...
لم تهتم الجارات لموت أم سلام، بل نصبن اهتمامهن بالبحث في دفاتر المذكرات التي يوثق للحروب، وأعقبَ قراءة اليوميات؛ انتقال النحيب لكل تلك الجارات على طول الزقاق.
زوبعة
كنتُ أقف عند الباب الخارجي، قبل أن أتوجّه لحضور مأتم جارنا الذي نصبوا سرادق العزاء له في طرف الزقاق، حين اقتربتْ زوبعة صغيرة تدور، وتدور وسطها ورقة! أثارني شكل الورقة التي تشبه طبقاً طائراً يدور وكأنه إشارة من كوكب آخر، مرّت قربي الزوبعة ولامستني الورقة، ومن ثَمَّ ابتعدتْ وسط دوامة الريح، وكأنها تدعوني كي ألحقها...
تعقبتُ الزوبعة وحدي، ولم يهتم بها شخص من الجيران، حتى عبرتْ الزقاق نحو ساحة واسعة متروكة، يتخذ منها الصبية ملعباً لكرة القدم كل مساء، سكنتْ الزوبعة وسط الساحة، ولامست الورقة الأرض، فهرعتُ لها مُسرعاً؛ كي لا تبتعد من جديد، وفعلاً لم تتحرك، فقد التصقتْ بوحل هناك، بينما ابتعدت الزوبعة نحو زقاق آخر...
بلهفة وحماس وصلت إلى الورقة، وأمسكتها بشغف، وركزت عليها؛ كي أقرأ ما فيها؛ فوجدتها رسالة قديمة مكتوبة بقلم الحبر وبلون أزرق من حبيب إلى حبيبته التي يستأذنها؛ لأنّه سيتزوج من ابنة عمه! تلقفتُها بتوجس واحترت بأمرها، لكن سيدة واهنة دخلت الساحة وهي قلقة وتتلفت، فرجعتُ نحوها، فعرفتها الجارة العانس الخرساء، فنظرتْ للورقة بشغف؛ فوضعتُها بيدها، فشمتها بولهٍ، لكنها صدمتني حين تكلمت ـ لأوّل مرة على مسمعي ـ وقالتْ:
ــ هل تكمل المعروف وتعيد الرسالة لمرسلها؟
ــ ومن هو مُرسلها؟
ــ الشخص الذي نصبوا سرادق مأتمه.
الطلب النادِر
خالي أريد الهدية عبارة عن تابوت! هذا كان طلب ابن أختي وهو يتصل بي في فجر يوم حزيراني وهو ينهي سنته الرابعة، فمنذ دخوله الجامعة وأنا أرجو أن أحقق رغبته؛ لأنّه الوحيد من بين أفراد العائلة في طريقه لنيل البكالوريوس، وكنتُ أكرّر طلبي كلّما نلتقي في عيد أو مُناسبة خاصة، وكان يُؤجل الرغبة؛ ليوم مُحدّد يقول بأنّهُ سيأتي حتماً...
حقيقة كنت أرغب بمنحه سيارة حديثة هدية لتخرجه أو شقة يمتلكها؛ كي يتزوج، لكنه خيّب آمالي الواسعة بهذا الطلب الغريب، وكرّر طلبه وبكل لهفة، وذكر بأنه طلبه الوحيد، ولم يكن أمامي إلا الوفاء بتعهدي بتحقيق رغبته، بغض النظر عن نوعها، فقصدتُ مسجداً واستعرتُ تابوتاً بحجة نقل ميت إلى المقبرة.
وكم كنتُ مُحرجاً وأنا أمر في شوارع المدينة والتابوت يمتطي ظهر سيارتي الفارهة، حتى مدخل الجامعة حيث تنبهتُ لسيلٍ عارم من الطلبة المتخرجين يهرعون نحو السيارة! ويرفعون التابوت من فوقها وابن اختي يومئ لي ممتناً...
جاءوا بيافطة مكتوب فيها ( الكبل)، ولصقوها فوق التابوت، وساروا به بمسير جنائزي، ترجلت، وسألت حارس بوابة الجامعة عن تفسيرٍ؛ فأكدَ انّهُ حفل تخرج وهم يقومون بفعاليات غير مألوفة يُغض النظر عنها من رئاسة الجامعة في العادة! وأن الكبل يعني الحبيب الذي سيفارق حبيبه بعد التخرج! رجعت لسيارتي بحيرة...
ولم أعلم ما الذي حدث؛ لكنّي وجدتُ نفسي أفيق من التخدير في ردهة عناية فائقة بعد إجراء عملية لرأسي الذي صُدم بالرصيف بسبب دعسي من دراجة نارية مسرعة لأحد الطلبة المتأخرين عن حفل التخرج.
لكن الخبر الذي أُخفي عنّي ـ حتى خروجي من المشفى ـ هو أن التابوت قد حمل جثمان الشاب الذي دهسني وهرب، ومن ثَمَّ تشاجر مع زميل آخر ثري كان قد تقدّم لخطبة الفتاة ( الكبل) خاصته، والتي هجرته لفقره، فتطور الشجار لإطلاق نار مات بسببه، حيث تحوّل مأتم الكبل لحقيقة.
____
جريدة الاتحاد الثقافي

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016