مراجعة لكتاب د. محمد عبيدالله الموسوم بـ(بلاغة المنفى: تجربة في قراءة القصيدة الدرويشيّة)، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2021.
“نهارَ الثُّلاثاء, والجوُّ صافٍ, أَسيرُ
علي شارعٍ جانبيّ مُغَطّى بسقف من
الكستناء… أسير خفيفاً خفيفاً كأني
تبخَّرتُ من جسدي, وكأني علي موعد
مع إحدى القصائد…”
من ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) لمحمود درويش
*الكتاب المقروء: محمد عبيدالله، بلاغة المنفى: تجربة في قراءة القصيدة الدرويشيّة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2021.
تتأسّس مقاربة محمد عبيدالله للنّصّ الدّرويشيّ في هذا الكتاب على مقولة مركزيّة مفادها أنّ أودَ هذه القصيدة الدرويشية موضوع الدراسة، وهي قصيدته الموسومة بـ”منفى: نهار الثلاثاء والجو صافٍ”، ينقام على فكرة رئيسة هي التأسيس لـ”بلاغة المنفى” موضوعًا شعريّا، في إطار تجربة الشتات الفلسطيني، ولذا فإن هذه القصيدة نصّ ينبني في أصله على تكريس مبدأ “بلاغة المنفى”، و”جماليات الشتات”، في إطار ما اصطلح على تسميته في نظريات ما بعد الكولونيالية “بالرد بالكتابة”، إذ تجد الذات المنفيّة في “تجربة البوح” و”تسريد الذات” على حد سواء، استراتيجية مقاومة، في إطار ما تعالجه من متعلقات الشتات والنفي، كالصّدمة والهُجنة وجدليات الإزاحة والتثبيت.
ولا مندوحة من الإشارة إلى أن مشروع محمود درويش الشّعريّ يمثل علامة سيميائية نوعية ودالّة وفارقة في الآن عينه في أطر الشعر العربي المعاصر؛ بما تنماز به هذه التجربة الشعرية، من قدرة على توليد أو إنتاج جدليات الذّات القلقة والمنفيّة والمتعبة من التسيار في أرض الله، ولذا فإنّ المرء لا يجد بدًا من مدافعة حقيقة مؤداها أن مقاربة النّصّ الدرويشي، بما هو عليه بوصفه نصّا وعرًا، تستطلب ناقدًا/ قارئًا خبيرًا بنار الشعر وسره المقدس؛ ذلك أنّه نصٌّ تحتشد فيه وتتداخل الهُويّات والأهواء والنزعات، ويصبح الموضوعي متعالقًا بالذاتي، والجمعي بالفردي، وكذلك الممكن بالمستحيل!
ويشبه أن تكون مقاربة الناقد عبيدالله الراهنة صورة من صور القراءة المختلفة، والطّامحة، والنوعيّة، ذلك أنه قرّر أنْ يندغم بالنّصّ الدّرويشيّ، وهو يتمثل مفهوم القارئ الكفء، كما في نظريّة التلقي، متخذًا من ممكنات القراءة النصيّة -في ظلال ما تتيحه من انفتاح منهجيّ على المناهج الأخرى- إطارًا نقديا لمقاربته النقدية التجريبيّة، على اعتبار أنها، أي القراءة النّصيّة، قراءة تمكّن الناقد من الجوسِ خلال شعاب النّصّ ووهاده، في سبيل القبض على رؤيته المركزية المكونة للحمته وسداهـ يقول الناقد عبيدالله “أما منهج هذه الدراسة فيستند في أهم منطلقاته إلى النقد اللغوي والبالغي والنصي”(ص95).
وأما عنوانات مباحث الكتاب، فقد اشتملت الإشارات الآتية: (1) سيمياء العنوان، و(2) بين الغنائية والسّرديّة، و(3) بناء القصيدة، و(4) البنية الإيقاعية، و(5) البنية المعجمية، و(6) البنية التركيبية، و(7) البنية التخييلية: الشعر والتصوير، وخاتمة، وتجيء هذه العنوانات في إطار موضوعة كبرى تبدو على تماسّ مباشر ببنية القصيدة والقراءة التجريبية.
ولأنّ في بداية الكتب فتنة وعجبًا كما عند الجاحظ فإن الناقد عبيدالله ينتخب في العتبة النصية الأولى، التي وسمها بـ”إشارات” نصوصًا شعرية ونقديّة، تتعالق مع الرؤية النقدية التي يتبناها الناقد في هذا الكتاب، خاصة في بما يرتبط بمفهوم الشعر، والقصيدة الدرويشية، وتلقي النقاد لشعر درويش من منظور درويش نفسه.
ومن هذه العتبات قول درويش: “يغتالني النقاد أحيانًا: يُريدون القصيدة ذاتها والاستعارة ذاتها…”(ص5) وكذلك قول بورخيس:” الكلمات كانت سحريّة في البدء، و تُعاد إلى السحر على يدالشعراء”(ص6)، وتكرس هذه العتبات الإشارية هذه الرؤية النقدية، التي تتشكل من أقانيم ثلاثة، هي دور الشعر ووظيفته السامية في هذا الكون، ورفض درويش لمنطق النقاد “المدرسيّ” و”الحرفيّ” في مقاربة نصوصه، وأخيرا رؤية الناقد المختلفة للقصيدة الدرويشية.
ولا ريب أنّ هذه العتبات تتآزر مع عتبة العنوان الرئيس، وعتبة المقدمة التي اختطها الناقد لتبيان حدود مقاربته، في تكريس انتماء هذه المقاربة لمبدأ القراءة النّصيّة، في إطار تجريب فعل القراءة، بوصف هذا الضرب من القراءة ضرورة حتمية؛ أجل مقاربة القصيدة الدرويشية مقاربة ناجزة ومنتجة؛ في ظلال انفتاح النص الدرويشي دومًا على آفاق المحتمل واللامتوقع.
ويقف الناقد عبيدالله مع عنوان هذه القصيدة “منفى: نهار الثلاثاء والجو صافٍ” راصدًا حضوره الدائب والمتكرر في بنيتها؛ مما جعله بنية مركزية، تمنح النص ترابطًا نصيًّا في إطار فكرة انسجام النص، فضلا عما تحمله المرجعية السيميائية التي تحيل إليها ألفاظ من قبيل “الثلاثاء”، و”نهار”، و”الجو صاف”، من إشاريات تمثل رغبة الذات الملحة في فتح كوة الأمل في جدار الزمان الصعب الذي يعيش الشاعر في أتونه، إذ” يمنحنا العنوان ومعاوداته هذه الرؤيا: الانتصار للنهار ضد الليل، وفي ثنايا ذلك الحماس للحياة في مقابل الموت، الحياة في هذه الرؤيا هي التي تستحقّ الاهتمام والاحتفاء، وهي التي تبدو طويلة، بعكس الليل=الموت”(ص21).
وإذا كانت هذه القصيدة تنمازُ بصبغتها السّرديّة فإنّ الناقد عبيد الله يجلي تمثيلات شعرية التفاصيل، في هذه القصيدة، بوصفها قصيدة “غنائية سرديّة”(ص29) بعبارة عبيدالله، ولكنها سردية لا تكفى شعرية الشعر وغناىيته وإنما تبرز في تلافيف النص في صورة تلاقح إجناسي، يفصح عن تمركزٍ فاعل لمفهوم تداخل الأجناس الأدبية في نسج المواقف والرؤى، بما يضفي إلى النص طاقات إبداعية وجمالية متجددة، غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن سردية هذه القصيدة عند درويش لم تجعله يقع في أتون إنجاز شعريّة عارية تفرضها رتابة السّرد ومتعلقاته.
ويرى الناقد عبيدالله أن فكرة “المشي” في هذه القصيدة تمثل مفتاحًا مركزيّا من مفاتيح القراءة النّصيّة الممكنة لهذه القصيدة، ذلك أن “اللفظ المولّد والرحمي في قصيدة درويش بحسب قراءتنا هو لفظ (أمشي) بدلالته على مشوار الحياة أو مسيرة الشاعر”(ص38)، غير أن هذه الفكرة يمكن أن تستدعي كذلك أحد تمثيلات حضور الفلاسفة المشائين في الموروث الفلسفيّ في شعر درويش، مما يجعل من المشي بوصفه طقسًا فلسفيًا، أداة يرد بها الشاعر عن روحه غوائل الشتات ومحنه.
ولأنّ إيقاع القصيدة منماز في التجربة الدرويشية فقد عاين الناقد عبيدالله البنية الإيقاعية في هذه القصيدة، على اعتبار أن درويش استخدم فيها البحر المتقارب والتدوير وتكرار اللازمة والترصيع، ليصوغ قصيدته في صورة مختلفة، خاصة أن تقنية التدوير، وهي أبرز ملامح اللبنية الإيقاعية في هذه القصيدة، جعلت القصيدة تجيء في فقرات مطولة وليس وفق نظام السطر، وذلك ما يعين الشاعر على تسريد تجربة الذات في هيئة متصلة لا انفصال فيها، فهذه القصيدة إيقاعيًّا “فتنتمي إلى هذه المرحلة الإيقاعية التي تجمع بين الالتزام والتجريب، وتعكس جانبًا شيّقًا من اجتهادات الشاعر في تطوير إيقاعات شعر التفعيلة”(ص49)
وفي إطار البنية المعجمية رصد الناقد عبيدالله ضروبًا من الاستعمال المعجمي الخاص للغة عند درويش، كالكلمات المفتاحية، وكذلك كالمعرب والدخيل واليومي، مما يضفي إلى القصيدة ضربًا من التنويع الذي يعبر به درويش عن المعيش واليومي عبر بلاغة الحكي الشعبي، وهي بالطبع ألفاظ” يُقصد منها أن تقوم بوظيفة التنويع وتأدية دور بلاغي وجمالي”(ص88)
أما فيما يتعلق بالبنية التركيبيّة فقد عاين الناقد عبيدالله التراكيب الاسمية والفعلية وبلاغة التراكيب الحجاجية، إلى غير ذلك مما تنجدل به خيوط البنية التركيبية في هذه القصيدة، أسهمت الجمل الفعلية في تقوية الأسلوب السردي وإظهاره، مع أن القصيدة لم تفقد هويتها الغنائية، وهي تقدّم نموذ جا شعر يا على إمكانات القصيدة الغنائية من الناحية السردية، وانفتاحها على استعمال السرد أسلو بًا فار قا يُسهم في تنويعها وتطويلها وانسجام بنائها” ص(95)
ولأن الشعر ضرب من التصوير، أو هو مركب يتألف من استعارات كبرى، استعمل درويش كما يرى الناقد عبيدالله إضمامة من الصور المتنوّعة “ولكن يبدو لنا أن التصوير في هذه المرحلة من تجربة الشاعر لم يعد مطلبا أو هدفا، وغدا مقترنا بالحاجة الماسّة إلى الصورة، وربطها بوظيفتها” ص(116)
وهكذا تندرج هذه العناوين النقدية التي اشتغل عليها الناقد عبيدالله على إنجازها في هذه الدراسة في إطار فكرة كبرى هي “القراءة التجريبية”، وقد كشفت هذه العناوين عن صورة ناقد، مشغول بالنّصّ وجدلياته، بوصف النص الدرويشي مجمعَ مفارقات وجدليات لا تنتهي، تستأهل ناقدًا خبيرًا بقوانين الكشف والتأويل في إطار القراءة النقديّة.
وختامًا، فإنّ هذا الكتاب يثير أسئلة قلقة حول “بلاغة المنفى” وهو لا يتوانى في رحلته البحثية عن القبض على مفاتيح هذه النص، القلق، والعابر، واللذوي، متخذًا من التجريب النقدي منهجية ناظمة جعلت من لذة النّصّ -وفقا للمفهوم البارتيّ- غاية هذه المقاربة ومحورها الركين.
إرسال تعليق