سلمان زين الدين
لا يزال كتاب “ألف ليلة وليلة”، منذ وضعه في صيغته النهائية، بعد إضافة الحكايات المصرية إليه في الربع الأول من القرن السادس عشر، “يملأ الدنيا ويشغل الناس”، على حد تعبير ابن رشيق القيرواني، في وصفه أبا الطيب المتنبي. ولعله أحد أكثر الكتب شهرةً حول العالم، إذا ما استثنينا الكتب المقدسة للأديان المختلفة، فقد أولته آداب المجتمعات الإنسانية اهتمامها، وتحول إلى نتاج معرفي عالمي يزخر بالحكايات الدالة، ووضعت فيه كثيراً من الدراسات. لكنها، على كثرتها، لم تستنفده، ولا يزال الكتاب مادة للبحث والدرس، بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً على وضعه، في صيغته الأولى. ولعل دراسة الباحث السوري محمد عبد الرحمن يونس، “مدن ألف ليلة وليلة”، الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت والنادي الأدبي الثقافي في منطقة الباحة السعودية، هي إحدى أواخر الدراسات في هذا الموضوع. ويونس أستاذ جامعي وقاص وروائي، وباحث متخصص يشغل كتاب “ألف ليلة وليلة” موقعاً محورياً في بحوثه، فقد أفرد له تسعة بحوث، منشورة أو مخطوطة، تتناول مختلف جوانبه المعرفية، وآخرها موضوع هذه القراءة. وهو جديد في بابه لم ينل حقه من الاهتمام في الدراسات السابقة.
منطلقات ثلاثة
إن ندرة الدراسات، مضافة إلى الفضاء الحكائي والعلاقات المدينية داخل “الليالي” هي التي حدت بالباحث إلى الخوض في هذا الموضوع. وهو يخوض فيه منطلقاً من منطلقات ثلاثة، على الأقل، تجمع على التلازم بين الليالي والمدينة؛ الأول هو أن “حكايات ألف ليلة وليلة” هي حكايات المدينة العربية الإسلامية في أوج نموها المعرفي والحضاري في العصر الوسيط… (ص 109)، والثاني هو أن “ألف ليلة وليلة” نسيج اجتماعي وثقافي ومعرفي وسياسي واقتصادي، داخل شبكة من العلاقات المدينية، التي نمت وسادت داخل المدينة العربية الإسلامية وغير الإسلامية، من خلال رحلتها الحضارية في التاريخ الإنساني (ص 182). والثالث هو أن “حكايات ألف ليلة وليلة” تعد رحلة سوسيولوجية وأنثروبولوجية في المدن الحقيقية والخيالية التي ذكرتها الليالي (201). وإذا كان الكتاب، في مستوياته اللغوية وأحداثه المتخيلة وغرائبه العجيبة، يدخل في باب الأدب الشعبي، فإنه، في فضاءاته الحكائية ونسيجه العلائقي، يدخل في باب الأدب المديني، ويشكل نصاً مدينياً بامتياز. من هنا، يقع اختيار الباحث لموضوعه في موقعه الطبيعي.
في مقدمة الدراسة، يبرر الدارس اختيار الموضوع بعدم تناوله سابقاً، ويحدد أهدافه بمحاولة تبين ملامح المدن في “الليالي” وعلاقات السلطة فيها، ويشير إلى اعتماده بعض معطيات المنهج الأيديولوجي في قراءة النصوص، ويذكر المصادر والمراجع التي يفيد منها من دون أن يؤسس دراسته عليها، بل هو يؤسسها على نصوص “ألف ليلة وليلة”، بالدرجة الأولى. على أن تطبيقه المنهج الأيديولوجي عليها لم ينأ عن الغلو، في بعض الأحيان، فنراه يحمل النص أكثر مما يحتمل، ويحول القراءة إلى نوع من محاكمة نوايا، ويسقط تفسيره الأيديولوجي على أحداث معينة معتمداً المنطق التبريري ليسوغ هنات فنية معينة يقع فيها هذا الراوي أو ذاك.
في متن الدراسة، نقع على نوعين اثنين من المدن؛ تاريخية يفرد لها الدارس الفصلين الأول والثاني، ومتخيلة يخصها بالفصل الثالث من الدراسة. ويروح يتبين ملامح هذه المدن من خلال تمظهرها في الحكايات المختلفة، ويخرج بخلاصات جامعة مانعة تتعلق بهذه المدينة أو تلك. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل يكفي ورود ملمح معين في حكاية معينة لنعتبره من ملامح المدينة الثابثة؟ ألا يقتضي المنهج العلمي تواتر وروده في غير حكاية حتى يمكن الأخذ به؟ واستطراداً، يؤسس الدارس دراسته على نصوص يختلط فيها التاريخ بالخرافة، والحقيقة بالخيال، والعادي بالغرائبي، وكثيراً ما يصعب ترسيم الحدود بين هذه المتضادات، فكيف يمكن البناء على رمال نصية متحركة والخروج بخلاصات علمية ثابتة؟ على أن المفارق، في هذا السياق، هو أن الملامح التي يتبينها الدارس في الحكايات لا تختلف كثيراً عن الملامح التاريخية للمدن، وبذلك، تلتقي أدبية الليالي مع علمية التاريخ، وتؤولان إلى النتائج نفسها.
مدن عربية
يتناول يونس في دراسته أربع مدن تاريخية هي: بغداد، والبصرة، والقاهرة، ودمشق، ويروح يرصد ملامح كل منها في الحكايات المختلفة، ويتفاوت عددها من مدينة إلى أخرى، ففي حين يرد ذكر بغداد في عشر حكايات، ترد البصرة في خمس عشرة حكاية، والقاهرة في أربع عشرة حكاية، ودمشق في اثنتي عشرة حكاية، من دون أن يرتبط العدد بأهمية المدينة. وهو يعتمد المنهجية نفسها في توزيع المدن التاريخية على الفصول، فيفرد فصلاً واحداً لكل مدينتين، يمهد له بمدخل عام، تليه لمحة تاريخية عن المدينة المختصة، تعقبها تمظهراتها في ألف ليلة وليلة. وهو يقارن بين صورتي المدينة في التاريخ والكتاب، تتمخض المقارنة عن اختلافات طفيفة أو تطابق بين الصورتين، وقد يقارن في سياق الدرس بين مدينة وأخرى. على أنه تغلب الإيجابيات على السلبيات في صور بعض المدن الأربع، وتتوازن في ما بينها في صور مدن أخرى. على أن الملامح المرصودة لكل مدينة تتوزع على المستويات الاجتماعية والسياسية والتجارية وغيرها.
في بورتريه مختصر للمدن الأربع نرسمه بنتيجة القراءة؛ تبدو صورة بغداد في الليالي مشرقة، فهي “جنة من جنان الدنيا”، تزيل الهموم وتبدد الأرق والقلق (ص 39)، و”مدينة جميلة آسرة، تشرح الصدر” (ص 40)، “مفتوحة أمام كل الناس”، و”من أهم المراكز التجارية” (ص 42)، “حلم الطامعين بالثروة ولذة العيش” (ص 44)، كريمة، أمينة، آمنة، “محطة للمتعة والمسرات” (ص 49)، “ذات سلطة مركزية سياسية” إضافة إلى مركزيتها الاقتصادية والتجارية والدينية والعلمية والترفيهية (ص 50). على أن بغداد كثيراً ما تنزاح عن هذه الصورة المشرقة لتغدو فضاء للفقر في حكاية “الحمال والبنات”، وفضاءً للقتل والسطو والنهب في حكاية “علي بكار وشمس النهار”، على سبيل المثال لا الحصر. وهذه الملامح لا تختلف كثيراً عن ملامح المدينة التاريخية.
وتبدو البصرة “بوابة العراق التجارية صوب العالم الخارجي” (ص 85)، “مدينة التجار الأثرياء والتجارة النشيطة” (ص 86)، “مليئة بالبساتين” (ص 88)، “مدينة أليفة وحميمة ومحطة استراحة آمنة”، “مدينة النساء الجميلات والجواري الأبكار” (ص 89)، مدينة النساء الوفيات والرجال الكرماء (ص 90، 19)، مدينة الشاعرات الأديبات (ص 93)، و”مأوى الشعراء” (ص 96). على أن صفو هذه الملامح المشرقة، على المستويات التجارية والاجتماعية والأدبية والجمالية، يعكره، على المستوى السياسي، أن البصرة “محكومة بطغمة من الحكام والوزراء والولاة الذين يعيثون بطشاً بمناوئيهم” (ص 101). فكيف يستقيم الظلم السياسي مع الازدهار التجاري والنهضة الأدبية. تلك، لعمري، مفارقة تستحق الدرس.
القاهرة المزدهرة
أما القاهرة، فتبدو “مدينة تجارية مزدهرة” (ص 127)، تجارها كرماء (ص 128)، أهلها “أكثر صدقة وإيثاراً من جميع أهل الأمصار” (ص 129)، نساؤها متحررات وجريئات، وهي “أكثر المدن فضاءً للحريات والعلاقات الجنسية” (ص 133). وفي مقابل هذه الملامح، هي “مدينة المهمشين اقتصادياً ومالياً” (129)، وفضاء للاحتيال واللصوصية (ص 138)، ومدينة السحر المليئة بالعجائب والحكايات الخرافية (ص 147). وهكذا، تتوازن في بورتريه القاهرة الملامح المشرقة والقاتمة، على حد سواء.
ولا تبتعد دمشق عن القاهرة في جمعها بين هذين النوعين من الملامح في الليالي؛ فتبدو، في ملامحها المشرقة، “مدينة جميلة غناء” (ص 168)، جميلة المطاعم (ص 170)، مركزاً تجارياً وصناعياً (172)، فيها “رجال خير يكرمون الفقراء الغرباء” (ص 176)، “فضاءً للأمان” (ص 178)، “محطة يرتاح فيها التجار والمسافرون” (ص 186)، وهي “المدينة المعرفية التي تحتفي بالتاريخ والقصص والمأثورات الشعبية” (ص 185). وتبدو، في ملامحها القاتمة، “بلاد الربح الفاحش والتلاعب بالأسعار” (ص 170)، “بها رجال سلطة ظلمة ومستبدون” (ص 172)، منغمسون في ملذاتهم (ص 179)، سكانها “دمى بيد حكامهم، وأذلاء مهانون أمام هؤلاء الحكام” (ص 185). وبذلك، تتوازن الملامح المشرقة وتلك القاتمة في بورتريه المدينة.
إذا كانت صورة المدينة التاريخية في “ألف ليلة وليلة” تغلب فيها الملامح المشرقة على القاتمة كما نرى في بغداد والبصرة، ويتوازن فيها النوعان كما نرى في القاهرة وبغداد، فإن صورة المدينة المتخيلة “تبدو غاية في الدهشة والجمال والتخطيط والروعة” (ص 202). وهي “أنموذج للخيال العجائبي” (ص195)، تجمع بين الأسطورة والغرابة (ص 200)، وتزاوج بي الطلاسم والسحر (ص 219)، وتلبي مقتضيات الحكاية فضاءً وأحداثاً وعلائق. ولعل هذه الصورة النموذجية للمدينة المتخيلة جاء بها الرواة ليستعيدوا توازناً مفقوداً مع المدينة التاريخية التي يستشري فيها الفقر والظلم والاستبداد، فتشكل المدينة/ الحكاية ملجأً يفيء إليه المتعبون وثقيلو الأحمال ممن أخنت عليهم المدينة التاريخية وعلاقات السلطة فيها.
“مدن ألف ليلة وليلة” كتاب يقود إلى مدن زاخرة بالغرائب والعجائب، يأخذ بيد القارئ من دون أن يصادر حقه في الرؤية بعينيه واصطياد طرائد المتعة والفائدة. وهو عمل رصين يضيف إلى المكتبة الألف ـ ليلية كتاباً آخر يغنيها من بعد أن اغتنى بها.
“إندبندنت عربية”
إرسال تعليق