-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

المقامةُ الأحمديّة / الشاعر د. علي هصيص

 

المقامةُ الأحمديّة

إلى أحمد الخطيب 

حَدَّثنا الرّائي قال:

في البدء كان الخلْق، وانتـفى كل ما كان من رتْق، واتسع الكون تماما بعد الفتق، ثم كان أن اتخذ المهرجان الكوني من النار أداةً للحرق.

أما النار... فمضيئة الأقمار، ومشعلة الأشجار، ومبرقةُ الأمطار، ومرهزةُ السُّمّار، ومبهجةُ الأنظار، وملهمة الأشعار.

أما الأشعار... فسلالةٌ من سلالات البراكين الأولى، ويدٌ لإشاراتٍ طولى، وتباريح الوجود إلى الهيولى، تتمكن من كل شيء، ولا يتمكن منها شيء، وهي الوحيد ما لا يمكن نثرُه، ولا يُرْتقُ بتْرُه، ولا يجبرُ كسره. والأشعار كذلك، حاجة هالك، وردّةُ سالك، واجتراح الليل في صمت الممالك.

والشعرُ لا حدَّ لهُ، والتعريف ليس أوّلَهُ، خاب مَنْ حاولَ أن يؤولَه، وكذلك خاب من حاولَه؛ فالشعر ليس يحاول، وبيته ليس يُطاول، يتشكّل كلّا قبل البدْ الأوحد، يمتدُ ولكنْ لا يتمدد، سيجيء عليكم زمنٌ في الزمن الأبعد، زمنٌ أرمد، يغدو الشعر فيه مريضا أكمد، لا يبرأُ حتى يأتي رجل من قبْلي اسمهُ أحمد.

سيجيء في زمن الردة، وجموع الزحف المرتدة، والنهار ظلام كالليل، والأقلام غثاء كغثاء السيل، فمن من الشعراء سيُلقي قلمه في النهر، ليكفُلَ معنى الشعر طولَ الدهر؟

كفّلْتُهُ -أنا- كفَّلتُه أحمد، كلما دخل عليه تداعى ثم تجدّد، فصار خفيا ومجازا، لمريديه مفازا، غموضا وعذابا، للساعين مآبا، وللداعين مثابا.

زمانٌ مرّ من زمنٍ   به الإنسان قد جفّا

وجفّ الشعر منبعُه  وطير الروح ما رفّا

فجاء الشعر أحمدُه   ملا أوتارَه عزفا

عزيف الجن قد ولّى  على أصدائه التفّا

وعاد الشعر في نهَرٍ   لنرشف ماءه رشفا

أما أحمد... الغامض الواضح في المشهد، فتتداعى عليه الأمم، وتجتاحُه الحُمم، وتأتيه نصالُ الشر، بنزفٍ ثر، ويعصرون له الحنظل الأمر، في كل دربٍ وممر، يظنون فيه الظنون، ويحاولون إحراق المتون، ولكنهم يصعقون حين يسمعون:

لم تنفتقِ الأرضُ سوى عني

متهمٌ أحمدُ بكل سؤال ومقال، متهم بظنون الشعر وما خلف الكلمات، متهم أيضا، بكل ما هو عذب وفرات، وكلما اتهموه... عصموه، منحوه الفردية، وشهدوا له بالوِجدانية.

له في الشعر مملكة    يظلُّ وحيدَها الأصفى

بحيرة شعره خمرٌ       لمرضى الروح هيْ مشفى

وعن ساقين قد كشفت   بها الحور التي تحفى

فيمتزج الخليط بها       يُشَفُّ من الجوى شفّا

متهمٌ أحمدُ بالغيبوت، متهم حين أطل على النفس بـِ (مرآة المطلق في بطن الحوت)، متهم بالبعد، فينحاز إلى الأبعد، ويظل بعيدا حتى يتشكل على هيئته الشعراء، فيغدو للشعر سفراء، يأتونه بكتب من شتى مدن الأرض، ذات العرض، يسألونه عمّن أبرق فينا حجر الروح الأول، وخزّفه بنحاسٍ أحمرَ أصقل، يسألونه عن شعراء اشتغلوا بالزئبق والصلصال، يسألونه عن سبع خصال:

أما الأولى فمن شاعر سكب النار؟

والثانية من شاعر فتح الغار؟

والثالثة من شاعر أشعل بحرا بالقار؟

والرابعة من شاعر نام على شفا عشق هار؟

والخامسة ليست واضحة النقش فتبقى قيد الأسرار.

والسادسة من شاعر لا يخرج من دار؟

والسابعة من شاعر جاء إلى الزمن الأرمد بالأشعار؟

فأجاب الخامسة وأبقى الباقي للأغيار!

له في الشعر مملكة:

بمدخلها زها قوسٌ    بسعفٍ يعتلي سعفا

وعرش الشعر أعظمها    وأعظم منه ما يخفى

أتاها الضوء في صبحٍ    وفي ليلٍ وما كفّا

لا يبحث عن لغة من كان تبحث عنه اللغة، ومن ادعى لغةً سواه فقد بغى، ومن قال بحضرته الشعر فقد لغا.

ديدنه أنه وكأنه ليس سواه، الشعر رواه، فصار الشعر به آتيا، وصار راويا، من بعد أن كان مأتيا مرويا.

دون تكلف، له لغة من سبعة أحرف، كسبع سماوات الشعر بلا أرفُف، مطلقة الكلمات، ممتدة الشجرات، تمتد بلا مد، وتحتد بلا حد، لا يوقفها سد، ولا يدركها عد، ويظل لا يشبِهُ ولا يُشبَه، ولذلك كان الأنبه.

له لغةٌ كما الدنيا         يصُفُّ نظامَها صفّا

أقام عمادَها صوَرا       تفوقُ الحبر والوصفا

وحرف الماء أعمقُها      به الرؤيا وما أخفى

 وفيما الميمُ مستترٌ       تراه العالمَ اصطفا

وحين يزوره الضباب، الذي لا يعرف الأبواب، يتفقان على شرب الشراب، من ماء السماء، وخفيف الأنداء، ومعاينة النفس، بدرء الهمس، وتدريب الأحلام، على ثلاثاء الأيام، وسكب المداد، كثياب الحداد، على ورقٍ رق، في قلم دق، يتحد الثالوث، لإحياء الماموث، وثمة طقوس كثار، لا تدركها الأبصار، فما أبعدنا عن طقس الأشعار، إلا من استحوذ واستأثر بالنار، فإذا كنا لا نصل الطقس، فمتى ندرك بالحس، وإذا كنا محض سكوت، فمتى ندرك مطلقنا في بطن الحوت؟

تلكم إذن بعض طقوس، تموج بمن ليس يجوس، يقلدها فيفقدها، يطرقها فتغرقه، ويسرقها فتصعقه، فحذارِ إذن من استراق السمع، ورحامِ بمن جهل الوقع، وأساء الظن، ببديع الفن.

أما طقس الإيقاع، فهو الأعمق في قرار الأسماع، لا يعتمد الماء قبل الخفاء، ولا يهتز في الهواء قبل الدماء، تحتاجه الكلمات وقعا، وتثيره الموجات نقعا، فيدور في القصيد كما الأثير، واختزل الكثير الكثير، صداه خفيف، مداه لطيف، نداه شفيف، وهو:

هو الإيقاع آسرها   عليها السحرَ قد أضفى

مسافات به حُسِبَتْ   حسابَ النسْمِ إذ هفّا

ووقفٌ من عناصره   فما ما أعذب الوقفا

مملكة الشعر والشاعر، مملكة الثلج والمجامر، برد وسلام، شمس وغمام، وهي الوحيدة من غير معامد، وهي التي ساكنها واحد، يدخلها الزائرون، ويرتادها المتعبون، وكل على عتباتها يسألون:

لماذا البابُ لا يُفتح؟ لماذا لونُها يَجرح؟

كبير الشعر ساكنُها   بها ما أطيب المنفى

يظل مدارها أبهى      لها قمرٌ لقد زُفّا

يظل مسارها يعلو      بها زُحَلٌ لقد حَفّا

طعينُ النصل خاصرةٌ    له، تستعذب النزفا

وحين رأيت أقربها    بها عقلي لقد خفا

 فكيف البعد لو يبدو سيغدو العقل بي نصفا

أنا الراوي الذي يروي   مقامةَ أحمدَ الأكفا

 

 

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016