الرمز في
المجموعة القصصية
(من دفتر
أحوال الغجرية)
بقلم الناقد
والقاص/ محمد رمضان الجبور/ الأردن
تأتي
هذه المجموعة (من دفتر أحوال الغجرية) بعد صدور خمس مجموعات قصصية للقاص المصري
محمد عطية محمود، فقد صدر للكاتب قبل هذه المجموعة، خمس مجموعات قصصية هي: على
حافة الحلم، وخز الأماني، في انتظار القادم، عيون بيضاء، جمر اللحظة، بالإضافة لأعمال
روائية ونقدية، ومن الأعمال الروائية: دوامات الغياب، وبهجة الحضور وغيرها.
وقد
جاءت هذه المجموعة في مائة وتسع صفحات، وضمت بين دفتيها تسعين نصاً سرديا تنوعت
عناوينها تبعاً لتنوع موضوعاتها، وقد قسّم القاص قصصه إلى عناوين رئيسية وأخرى
ثانوية أو فرعية، أما عن العناوين الرئيسية فقد اختار الكاتب أربعة عناوين تحمل
دلالات متعددة، (روح القهوة، هايكو، عبق، من دفتر أحوال الغجرية)، وتحت كل عنوان
من العناوين الرئيسية كان هناك مجموعة من القصص والعناوين الفرعية، تفاوت عددها من
عنوان لآخر، وكان العدد الأكبر من القصص تحت عنوان (من دفتر أحوال الغجرية).
ولا
شك أن العناوين تظل هي العتبات الأكثر أهمية في الوصول إلى أعماق النص الأدبي،
والمتأمل جيدا في عناوين المجموعة بدءًا من عنوان المجموعة (من دفتر أحوال
الغجرية)، إلى باقي العناوين الفرعية، يرى أنها قد ارتبطت بعضها ببعض بخيط دقيق،
فالمفردات التي وظفها القاص: دفتر، غجرية، عرّافة، قهوة... جميعها تحمل في ذاتها
دلالة للمعنى المجازي لها، فمفردة الغجر
والغجرية تحمل في طياتها دلالة التشرد وعدم الاستقرار والتعب والحلم وغيرها من
المعاني، فالقاص قد وظف هذه المفردة في العنوان الرئيسي للمجموعة حتى تكون هي المفتاح
للولوج إلى داخل المجموعة.
فالغجرية،
والقهوة، والعرّافة.. ما هي إلا رموز وظفها القاص للوصول إلى الفكرة التي أرادها
الكاتب، فاستخدام الرمز في النص الأدبي ينبع من وعي وثقافة الكاتب، للتعبير عما
يجول في فكره دون التصريح، وبأسلوب فني غير مباشر، وذلك أن استخدام الرمز يفسح
المجال أمام القاص والأديب لاختزال الألفاظ، وحث المتلقي على البحث والكشف عن الدلالات،
فالأدب الرمزي يتطلب من القارئ والمتلقي بل ويفرض عليه القراءة الواعية المتعمقة،
بعيداً عن القراءة السطحية، وذلك لكشف ما خفي من المعاني والغوص والبحث عنها، وقد
نجح القاص محمد عطية في توظيف الكثير من الرموز في مجموعته القصصية، وأكثر ما يلفت
انتباه المتلقي في هذه المجموعة، استخدام مجموعة من الرموز تنبع من مكان واحد رغم
اختلاف معانيها ودلالاتها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الغجرية، العرافة،
القهوة، فالقاص من خلال هذه الرموز يشكو الوحدة والحزن والتشرد وهموم لا تنتهي،
فمفردة (القهوة) نجد القاص قد أفرد لها مساحةً ضمن العناوين الرئيسية، ولم يكتف
بذلك بل نجد هذه المفردة تتكرر في أكثر من نص، وقد اتخذها القاص عنواناً فرعياً
لأكثر من قصة: (فنجان قهوة) ص15، (قهوة) ص21، "صار طعم القهوة في لساني مراً
" (خرس) ص16، كوب قهوة البداية، سكر (عالي)..
(صعود ...هبوط) ص17 ،" القهوة المرة
بطعم الـ... اليد المندسة في طاولة اللعب" (مشهد) ص 19..
وهناك
قصص أخرى قد وظف القاص فيها رمز القهوة، فالقاص يبني قصصه من الواقع المعاش، يحاول
أن يعبر عن الهموم التي تصاحبه مستخدما الرموز وإسقاطها على الواقع، فالقهوة التي
يشربها مُرة، والحياة التي يعيشها السارد جزء من هذه القهوة.
في
قصة بعنوان (نوستالجيا) وهي لفظة يونانية الأصل تعني الحنين إلى الماضي، نرى أن
القاص قد اختار المقهى القديم ليبث شيئاً من همومه وأحزانه، فهو غير راضٍ عن
الواقع الذي يعيشه، فحن إلى الماضي الأجمل، وعبر عن ذلك بجلوسه في المقهى القديم،
قد تنازلت (ص) عن شرب القهوة معه، واستبدلتها بكوب من الشاي والحليب، وكأن القاص
يريد أن يقول أن كل شيء قد تغير وتبدل، ولكن بأسلوب جميل وبعيداً عن المباشرة، مما
زاد في جمال النص، وأفسح مجالاً للمتلقي للتحليل والتخيل، فأصبح القارئ شريكاً
للقاص في النص.
"في المقهى القديم.. تنازلت عن قهوتها التي تشربها معه،
بعدما دارت دورتها، في الخلاء النهاري من المرتادين.. ارتكزت عيناها على الركن
المغاير بمنضدته وكراسيه الخيزران العتيق الذي كان
يجمعهما منذ آلاف السنين.. تلفتت تلتقط النظر إليه
مليا، ثم استدارت لتتشبث عيناها به، وتمضي
نحوه،
وطلبت كوبا من الشاي بالحليب" ص 22
يظل
الأدب وسيلة للتعبير عن حالات نفسية وظروف حياتية سواء كانت ثقافية أو اجتماعية،
ففي معظم قصص هذه المجموعة نرى ونلمس صوت السارد المتخم بالحزن والهم، والوحدة
والاغتراب والتشرد، وفقدان الأنيس والرفيق، وهذا ما نلمحه في القصة التي عنونها
القاص بـ (رسالة):
"من
فنجان القهوة الذي برد من طول الانتظار والتذكار.. إلى كوب الشاي الدافئ بالنسيان والإنكار:
-
سيطول مشوارك بلا زاد
ولا ميعاد، وستنزوي مع حباتك السوداء اليابسة
في
قعرك، دون أن تلهم الشفاه بمذاق جديد"[1].
وتحت
عنوان (عبق) يرسم القاص مجموعة من اللوحات في تشكيل مفردة (المرأة)، فهي الأم
الرؤوم، والعش الذي يسكن به الصغار وإن كبروا
ص39، وهي الفراشة التي تُلطف الأجواء ص40، وهي المسخ كما في قصة مسخ ص 43
فمفردة المرأة تحمل دلالات متعددة ومختلفة، بأسلوب سلس وفيه التكثيف المقنع
والجميل.
وتحت
عنوان من العناوين الرئيسية (من دفتر أحوال الغجرية) يعود القاص ليرسم لنا مجموعة
من اللوحات في الغربة والتشرد موظفاً رمز الغجرية التي تحمل معنى التشرد والرحيل
وعدم الاستقرار، وكأن القاص أراد أن يتحدث لنا عن الدنيا وما فيها من رحيل وتشرد،
فاستخدم رمز الغجرية لما في حياة الغجر من تشرد ورحيل دائم، ففي قصة بعنوان (هي)
يقول:
"هي
الغجرية المهاجرة إلى صقيع الروح، بعدما كانت تدثر القلب والروح بأهداب
عينيها وقلبها ورفيف روحها على طول المدى، بعدما كانت تتكيئ على
الروح العطشى تستمد منها وهج اللحظات الفاتنة، تدخره دفئا تحيط به
العالم، وتنير به أنفاق ظلمته، وتتدثر بالغياب" [2]
وفي
قصة أخرى بعنوان (دروب) يؤكد لنا القاص على توظيف رمز الغجرية في الحديث عن الرحيل
والتشتت والتشرد وعدم البقاء في مكانٍ آمن، والمتأمل والمتعمق في النص يرى أن
القاص يقصد الدنيا بكلامه واستعاض عنه برمز الغجرية التي لا تستقر في مكان، بل هي
دائمة التنقل والترحال، كما هي الدنيا ليس لها استقرار.
(دروب)
قالت الغجرية دون اكتراث بشجوني: "وما الذي يجعلك تشد رحالك دائما إلى شواطئي المهجورة؟".. قلت، وأنا أتلفع بما
تبقى من صبري: "مللت كل الطرق التي لا تؤدي إليكِ ..وأصبح نشيدي اليومي منطلقا في عقبك" [3]"
تظل
هذه المجموعة التي استطاع القاص المبدع بالسيطرة الفنية عليها، كما استطاع بأدواته
الفنية وثقافته الواسعة، من أن يبدع في رسم الشكل البنائي لمجموعته، بخبرة القاص
الذي يدرك معنى الانسجام الجمالي والفني، ولعل أجمل ما يشد المتلقي أو القارئ في
هذه المجموعة هو الانسجام الموضوعي، فقد بدت قصص المجموعة أنها ترتبط بعضها ببعض
بخيطٍ دقيق، وتبدو الرموز التي وظفها القاص ليبني عليها الفكرة العامة رموزاً
تحتاج لشيء من التعمق والقراءة الواعية.
في
النهاية أرجو أن أكون قد وفقت في إلقاء الضوء على بعض الأمور في هذا العمل الأدبي
الجميل، ونبارك للقاص محمد عطية محمود صدور هذه المجموعة ونتمنى له مزيداً من
الألق.
إرسال تعليق