"إلى بوجمعة الذي
أحب الشِعر ورحل منذ زمن طويل جدا
وراء روحه الصافية"
الشعراء
يأكلون أجدادهم:
ربما
أحسن ما في الشعراء غفلتهم، لا تتفوق على هذه الخصيصة عندهم غير الأنانية التي
يكتبون بها قصائدهم. الشِعر مملكتهم، مملكة المطحونين الترفعين، وهو أيضا أقاليم
المصابين بعته الاعتراف العضال. أن تقتسم قصيدتك معناه، بكيفية ما أن تكون فُرجة،
هكذا يظن من يخلط بين القصيدة وصاحبها، هكذا أيضا يعتقد من لا يرى الشعر خارج الممكن
باللسان. ثمة شِعر كثيرٌ بَعيدٌ عن فؤوس اللغة ومعاولها، فوق اللغة المُستباحة
والمستبيحة لأعراض المعاني، شِعر عجزت البشرية عن تدجينه وتحنيطه وإسكانه
(إسكاته)، إنه تماما ذلك القسط المُمتنع من الشعر الذي يستحق العناء.
عالم
بدون شِعر، عالم يتخلى عن جناحيه ويختار البقاء في وادي الحَسَرات. يُقرر أن يلوك
رتابة المألوف، عالم من الطنين، من
قرقعة الفارغات الفاضحات، من مضغ الجوع الوجداني، من الموت على صليب الخواء.
عالم
بدون شِعر، عالم يصبُّ بنفسه لنفسه أقداحا من الملل الكريه، يعيش في الزاوية
الضيقة حيث الاستعارات خرقاء لأنها مسخ لا جمال فيه.
من
حسن الحظ أن للشِعر أصل كامن في إنسانية الإنسان، إنه أصل خفي لا يقبض على تلابيبه
غير قلة مصابة بمس خاص، وليس الشعراء، الناطقون بكل لسان، هم وحدهم من ينتمي إلى
أرومة الشِعر، بل أهل الدوحة كُثُر، والمنتسبون عن معرفة وبدون معرفة أكثر،
منتشرون بين ألوان لا حصر لها من طرق التعبير عن هذا الذي نعرفه في صورة القصيد
كما قد يأتي في صورة لحن أو نبض أو همس أو أفق أو لون أو مدى أو غفلة أو تردد أو
خجل أو اعتراف أو حسرة أو شهقة أو لمحة أو تلميح أو دهشة أو صمت أو تيه أو جنون...
للشِعر
كما للشعراء وجوه لا حصر لها، هو متعدد، وهم أيضا متعددون ومختلفون ومتباعدون حدّ
التقارب ومتشابهون إلى درجة الاختلاف ومنسجمون حتى التنافر...وهم، على تباين أصناف
تعابيرهم ينتمون إلى قبيلة لا تؤمن بالجد الأكبر إلا في صورة عشق مزاجي لا يثبت
على حال.
وهم
على اختلافهم وتوازيهم وتقاطعهم وتلاقيهم وتنائيهم، ومن حيث هم شعراء، لا يدفنون أجدادهم، إنهم يأكلونهم.
عندما
تحرن دابة الشعراء:
لن تعثر في الشعر على بطل مثل ذلك الذي في الرواية...إنَّ أبعدَ ما يمكن أن تجد في
القصيدة مجرد نقطة ضوء...سيكون عليك أن تتواضع في حضرة الشِعر، لعلك تعي قبل فوات
الأوان أنك تحملُ بَطَلَكَ وقصيدتَك.
الشعر
مرآة الفرد، لكنه ناطق أيضا بما في الجماعة، متكلم بلسان الإنسان وبروح البشرية في
تقلباتها بين الإقبال والإدبار، القدرة والعجز، اليقين والشك...الشعر تاريخ مختلف
عن التواريخ الأخرى، أبعد منها، وهو أكثر عمقا من التاريخ الاجتماعي، وهو أشد
اقترابا من المعنى الإنساني للتاريخ لأنه مكتوب بالمشاعر وبالانفعالات وباللغة
الخارجة عن سطوة القوالب الجاهزة وعن سلطان الموروث وعن الوعي المحسوب. الشعر حرية
كله، والقوالب استثناء.
ليس
للكيان الشِعري صورة واحدة ونهائية وجامدة و"مقدَّسة"...يعتقد الشاعر
أنه التقط المعاني وأسكنها حروفه وبنى بها صروحا من قصيد...غير أن المعاني هي من
تبني بنا أجسادها وتقيم بأنفاسنا وذواتنا مملكتَها، بل مملكاتها...هكذا نخرج إلى
الوجود، مع كل كتابة، من نُطف خفية إلى سماوات لانهائية، نولد بالقصيدة في كل مرة،
ولا نكتمل، بل نبقى في انتظار جسد شعري آت.
الذين
يكتبون الشعر أقل من الذين ينطقون به، يتناقلونه مثل تاريخ شجرة العائلة؛ والذين
يحكون قصيدتهم أقل كثيرا من الذين يتنفسون الشعر وينفعلون له وبه في صمت مريب
وجميل. والذين يحيون حقا في الشعر لا يعلمون في أي فلك يسبحون، والذين يمتطون صهوة
النظم تطاولا وقسوة تحرن الدابة تحتهم فلا يسكتون ولا ينزلون، يملؤون ما بين
السماء والأرض صراخا وعويلا.
الشعراء
كثيرون وهم أيضا قليلون، ذلك أن غلة المعاني لا أول لها ولا آخر، فلا أحد يصنع من
نفسه شاعرا ذات صباح، ولا أحد يستطيع منع ملائكة الخيال عن الاستقرار في قلب يحب
الانتساب إلى مملكة الشِعر.
في
الحاجة إلى جائحة من الشِعر:
ماذا إذا أصيب العالم "بجائحة
الشِعر"؟
ذلك
بالضبط ما يحتاجه العالم: جائحة من الشِعر، عِلة نورانية/ملائكية/شيطانية تصيب
الصغير والكبير، والقاصي والداني، الفقير والغني، قساة القلوب وسريعو العبرات،
الجلادون والخيرون، الحفاة والمتنعمون في القطائف واللطائف. يحتاج العالم إلى وباء
من الشِعر، داء يتسبب في النظر إلى الأشياء من زوايا مختلفة: زاوية الأطفال
والمجانين والمتفوقين/الصامتين والكسالى/الغرباء والحالمين والمتفائلين جدا
والمتشائمين بلا حد والمسافرين في أماكنهم والمتعلقين بالبحار والسموات وأعماق كل
شيء كل شيء...
جائحة
يصنعها المحمولون على بُسُط داخلية.
سنحتاج
إلى جائحة الشِعر، إنه اللقاح الذي قد يُستغنى معه عن الكمامات، كل الكمامات
والحفاظات، ويصير بفضله من الممكن أن نتنفس هواء الآخرين باطمئنان.
شاعر من المغرب
إرسال تعليق