-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

كتاب "على مدّ البصر" للحمدوني / الناقد رائد محمد الحواري

  

لدي قناعة تتمثل في أنني "كلما قرأت أكثر عرفت أنني لا أعرف"، هذا ما أكده "صالح حمدوني" في كتابه "على مد البصر"، فالتصوير الفوتوغرافي فن كبقية الفنون، والصورة (الجامدة) تحمل خلفها العديد من المعاني، لكن رائد كان غافلا في عن هذه الحقيقة.

أسباب تخلفنا فوتوغرافيا

كلنا نخضع للثقافة السائدة، تؤثر فينا بطريقة ما وبنسب معينة، فسطوة الفن التشكيلي وتعدد المدارس الفنية وتناميها، جعل التصوير الفوتوغرافي معزولا مهملا، فهو مجرد (تصوير آلي لا فنية فيه)، كما أن التصوير السينمائي والتلفزيوني أخذا مساحة جديدة من النقد والتوقف عندهما، جعل الفوتوغراف هامشيا،  ويشير الكاتب إلى هذه الأمر بقوله: "عانى الفوتوغراف العربي ـ في مداه التاريخي والجغرافي ـ من العزلة التامة عن الثقافة، بشكلها المعرفي الشمولي، ومنح حضوره المميز بين الفنون الأخرى في مرحلة من مراحله، ترفا دفعه ـ أي الفوتوغراف ـ إلى الانحسار في كيانات ضيقة وجمهور محدود" ص37، هذه الفقرة تشير إلى الخلل في بيئة الثقافة العربية التي أهملت جانب مهم وضروي ومؤثر في وعي الجماهير، فتصويب ذلك الخلل أصبح ضرورة ملحة لتقدمنا ثقافيا واجتماعيا.

المصور ليس محايدا، إلا إذا تحول إلى أعمى، المصور منحاز إلى العين، إلى الكاميرا، وهذه ترى وتقول ما ترى

دور صالح حمدوني كفوتوغرافي

ضمن تواضع الواقع الفوتوغرافي يبادر "صالح حمدوني" ليصلح ما أفسده الدهر، متخذا دوره الواعي: "سؤال الآن يتجول غامضا في رأسي: ما الذي أفعله؟

هل أحاول التأكيد أن هذا النبض الذي في قلبي ينبض أيضا في الصورة؟ كان هاجسي أن يرى الآخرون ما تراه عيناي، كان هاجسي ماذا تخفي الأبواب من تعب وأحلام مؤجلة، كان هاجسي أن أرصد الفرح في العيون.

وبدأت القصة

منذ شعرت بعلاقة خاصة بالأمكنة، سواء تلك التي عشت فيها، أو تلك التي تعيش في ذاكرة الناس، صار همي أن أنقل عبر الصورة أثرها فيهم وأثرهم فيها" ص38، من هنا أتت فكرة وجود كتاب "على مدّ البصر"، للفوتوغرافي والكاتب "صالح حمدوني" الذي أكّد نبل انتمائه لوعيه، هذا الانتماء نجده في حرصه على تعريف الآخرين بما يراه ويعرفه، حريص على زرع الفرح فيهم، حريص في سعيه لإعادة صور الأماكن في ذاكرتهم، فبدا وكأنه يحاول إعادة خلق ما هو غائب عن أعينهم، خلق ما يحلمون به ويسعون إليه، وجعل ذلك حيا وموجودا في واقعه، في حياتهم.  

الصورة الحية

من هنا سأحاول تبيان ما جاء في كتاب "على مدّ البصر" وأهمية المعلومات والأفكار التي يحملها الكتاب، الصورة الفوتوغرافية تبدو للوهلة الأولى جامدة، لكن إذا ما أمعنا النظر سنجد أن هناك حياة فيها، أول بوادر هذه الحياة تتمثل في الأسئلة والدهشة التي تثيرها في المتلقي.

المصور والكاميرا والصورة

يشترط "صالح حمدوني" على المصور الناجح أن يكون مؤمنا بدوره في سياقه الثقافي، كما يقدم أداته/ كاميراته ككائن: "المصور ليس محايدا، إلا إذا تحول إلى أعمى، المصور منحاز إلى العين، إلى الكاميرا، وهذه ترى وتقول ما ترى، ترى تفاصيل وتحدد رؤيتها، وتنتقل وتتجاوز كل شيء، لديها الجرأة، وهذا ما يثير الغيط أحيانا.

الصورة لحظة زمنية، هي امتداد زمني لا محدود وحقيقة لا محدودة، والمساحة المتروكة للمشاهد هي مساحة التأويل، والتأويل هو إثارة السؤال، الصورة تقود المخيلة إلى مساحات واسعة، إن لم تكن في قلب الحقيقة، فهي في دوائر حولها" ص30و31، بموضوعة هذه الفكرة، هذا التعاطي مع الصورة ومُصورها ومن يتلقاها كنت غافلا عنه، وقد أعادته "على مدّ البصر" على جادة الصواب.

الألوان

ينقلنا "صالح حمدوني" إلى فلسفة الألوان وعلاقتها بما هو إنساني، وعلى أنها يجب أن تكون واضحة وصريحة، وكاشفة للخير والشر: "الألوان تمنعني من التركيز على كرامة الناس، على كثافة وجودهم، (وجوههم) ونظراتهم، فقط الأبيض والأسود يصلحان للتعبير عن حياة البشر، فهي إما بيضاء كالجبن، أو سوداء كالفحم" ص34، هذا الاقتباس مما قاله المصور الفرنسي "سالغادو" يؤكد دور المصور المنتمي في رفع مكانه الإنسان، الناس، فهو يريدهم (عراة) من كل لون/ زيف، لنعرف حقيقتهم، ثم نعرف كيف نتعامل معهم.

محاربة الفوتوغراف

على مر الزمن الناس يحاربون الأفكار الجديدة، فهناك من تتعرض مصالحهم أو أفكارهم للنقد/ للنقض، وحتى للإزالة والمحو، من هنا نجد هؤلاء يتمسكون بأفكار الماضي ـ حتى لو أصبحت بالية، وجاءت أفكار/ حقائق صحيحة ومفيدة. رجال الدين وقفوا ضد الفوتوغراف واعتبروه كفرا، يتوقف الكاتب عند هذه المحطة التاريخية بموضوعية مشيرا إلى بداية تعرف المنطقة العربية إلى الفوتوغراف من خلال الفرنسيين الذين جاؤوا إلى مصر أيام "محمد علي" وكيف أن الوالي المصري نفسه دُهش وأوجس خيفة من هذا التصوير.

فلسفة التصوير

يقول الناقد "فراس حج محمد" في كتابه "الإنقاص البلاغي، المفهوم والتطبيق" إن النقص يحمل بين ثناياه الكمال الجمالي، مستندا إلى القرآن الكريم، وإلى النصوص الأدبية، يؤكد "صالح حمدوني" هذه الفكرة في "على مدّ البصر" من خلال اقتباس للفنانة التونسية "مريم بودربالة" التي تقول: "أغطي لأكشف، أستر لأظهر، أخفي لأبرز" ص63، ففكرة (الإخفاء) هي المثيرة، لأنها تترك للمتلقي مجالا ليفكر، يتخيل/ يرسم بنفسه ما يراه هو من وراء ما يقدم له، يعرض أمامه.

  الغرب والعرب والفوتوغراف

الغرب لم يترك وسيلة/ طريقة/ اختراع/ آلة تساعدهم على الهيمنة على المنطقة إلا واتبعوها، فعندما وجدوا التصوير الفوتوغرافي مساعدا لهم على التعرف على جغرافية المنطقة العربية وعلى السكان، استخدموها لتكون البداية الصحيحة في وضع خططهم الاستعمارية.

بداية دخول التصوير كان يهدف للتعرف على تفاصيل الجغرافيا العربية وتطابقها مع النصوص الدينية التوراتية، فتم تصوير آلاف الصور، استخدمتها الحملات الأثرية لاحقا لاستكشاف العديد من المواقع التاريخية.

كما كان الفوتوغراف بالنسبة للغرب وسيلة تؤكد تفوقه الحضاري على الشعوب الأخرى، من هنا وجدناه يصور القبائل البدائية وهي عارية. 

ولكن، انعكس ذلك فوتوغرافيا على المنطقة العربية إيجابا، حيث بدأت تهتم بالتصوير والصور، إن كانت للأماكن أم للأشخاص. 

    الصهيونية التصوير

الصهيونية اهتمت بالإعلام كوسيلة لترويج مقولاتها، من هنا نجدها عملت على تلميع من يعمل لها أو بفلكها، وبما أن الصورة تعد وسيلة إعلامية، فقد تم اصطناع (روبرت كابا) ليكون أحد الذين يسهمون في إيجاد كذبة دولة إسرائيل، يحدثنا "صالح حمدوني" عن تاريخ وحقيقة هذا الشخص وعلاقته بدولة الاحتلال، متناولا محطات مهمة في حياته المهنية الفاشلة، وكيف تم تغيير اسمه من "أندرية فريد مان" إلى اسم "روبرت كابا" فالاسم كان له أثر ووقع في الإعلام ويستغل شهرة "الممثل الأمريكي بروبرت تايلور والمخرج فرانك كابرا اللذين ذاع صيتهما" ص117، "كابا" هذا قام بأول عمليه كذب من خلال تغيير اسمه، بعدها (فتحت) له الصهيونية عالمها القائم على الكذب والتشويه والدجل وقلب الحقائق والتسلق والانتهازية والوصولية، بحيث كان صورة طبق الأصل عما أوجده.

الطريقة التي اتبعها "كابا" ليكون في مقدمة المصورين عالميا، كان من خلال إظهار نفسه من المصورين المشاركين في تصوير الحرب الأهلية الإسبانية، وأظهر نفسه على أنه نصير الجمهورين ضد فرانكو، فقام بعرض صورة جندي جمهوري قتيل، قتل في "سيروم وريانو" لكن بعد البحث تبين أن الصورة كانت في قرطبة، التي لم تشهد أحداثا قتالية في تلك الفترة.

يتم تضخيم "كابا" أكثر ليكون المصور الأول لإعلان قيام دولة الإسرائيل، فقد أرسلته المجلة التي يعمل بها لتغطية الأحداث في اليونان، لكنه يرفض الطلب، ويصرّ على الذهاب إلى فلسطين وتغطية إعلان قيام دولة الاحتلال، مما يؤكد أن من يعمل مع الصهيونية ستكون الانتهازية/ الكذب/ الوصولية/ الخداع صفات أساسية فيه.

التصوير كحرفة

   في المقابل ينقل لنا "صالح حمدوني" نماذج لأشخاص أمنوا بالتصوير كواقعية يجب التعامل معها بمهنية، يقول "سيرانو": "لن أنام مع الشيطان، لكنني بالتأكيد سألتقط صورة له إذا سمح لي بذلك" ص146، أعتقد أن هذا القول يبين أهمية التصوير في كشف الحقيقة للآخرين، بصرف النظر إن كانت مفرحة أم مؤلمة.

في خاتمة الكتاب يضع الفوتوغرافي "صالح حمدوني" 46 صورة، كنماذج عن الصور التي حللها، ليعرف للقارئ، ويسهل عليه الوصول إلى ما طرحه في كتابه "على مد البصر" 

الكتاب سيصدر قريبا من منشورات فضاءات للنشر والتوزيع، وبدعم من وزارة الثقافة الأردنية، الطبعة الأولى 2025.


إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016