-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

دراسة في الخطاب الشعري لديوان غزة" لسامي البيتجالي


 

بلاغة الدم والصمت

دراسة في الخطاب الشعري لديوان غزة" لسامي البيتجالي

اياد شماسنة*

 

     في زمنٍ تتناسل فيه العناوين العاجلة ، يجيء ديوان «غزة» كي يؤسّس لبلاغةٍ تُزاحم عدسة الإعلام وتتفوق على اختزالاتها. فغزة، التي طالما ظهرت في الشاشات كجغرافيا منكوبة، تسترد في هذا الديوان صوتها الداخلي، ذاتًا ناطقة تقاوم النسيان بالشعر، وتفكك الرواية السائدة بلغةٍ تمتزج فيها الحسية بالتوثيق، والتأمل بالفعل الرمزي..

     

ومن هذا المنظور، تتقصّى هذه المحاولة  أبعاد الديوان خطابًا وصورةً ورمزًا، وتحلل تمثيلات الضحية، ووظيفة الشعر التوثيقية، في محاولة لرسم ملامح ما يمكن تسميته بـ«القصيدة–الإعلام»؛ ا الذي يعيد خلق الخبر من قلب الجرح، بلغة لا تُرتهن للكاميرا، و تنبع من الذاكرة الحيّة.

أولًا: غزة بوصفها شاشة مركّبة – تفكيك البثّ وتحرير الرؤية

     يقدّم ديوان «غزة» المدينة بوصفها "واجهة إعلامية" مشحونة بالمعاني، تُعاد صياغتها مرارًا عبر الشاشات، ثم تُستهلك بوصفها مشهدًا مألوفًا في نشرات الأخبار. غير أن الشاعر، في بناءه الشعري، لا يقف موقف المتلقي لهذا البثّ المقولب، بل يتجاوزه نحو إنتاج "نصّ تلفزيوني مقاوم" يعيد تمثيل غزة من الداخل، بما لا تستطيع الكاميرا أن تلتقطه ولا المراسل أن ينقله.  في هذا السياق، تستوقفنا إحدى الصور الشعرية اللافتة:

«يضعون صورة غزة في مربع صغير على الشاشة
وتكبر الدماء خارج الإطار»

     هنا تُجرّد الكاميرا من سلطتها وتُعري محدودية التغطية الإعلامية، إذ يوسّع النص الشعري مساحة الرؤية لتشمل ما يُقصى عادةً عن البثّ: الجسد المبتور، الصرخة المطموسة، الجنازة الصامتة، وتفاصيل "ما بعد الصورة". المشهد الحقيقي، في منطق الشاعر، لا يُعرض بل يُخفى، ولا يُبثّ بل يُمحى.

     بهذا المعنى، تتحوّل القصيدة إلى ما يشبه "كسر البثّ المباشر"، حيث تُستعاد غزة ككائن ناطق وكحقيقة ملغاة لا كعنصر ضمن سردية دولية مُحايدة. وبذلك تُعلِن القصيدة رفضها لاقتصاد الصورة القائم على التقطيع والاختزال، وتفتح أفقًا لرؤية تتأسّس على المعايشة، وعلى الحضور لا الاستهلاك البصري.

ثانيًا: الصورة الشعرية كعدسة إنسانية – تجاوز الكادر وتحرير الوجع

     يُعيد ديوان «غزة» تعريف وظيفة الصورة الشعرية، كوسيلة توثيق بديلة، تتجاوز محدودية الكاميرا، وتخترق حاجز التلقي التقليدي. إذ لا تنقل القصائد المعاناة بسطحية، بل تُحوّلها إلى مشاهد حيّة، متخيلة–واقعية، تنبع من الداخل وتُخاطب العمق الإنساني بعيدًا عن التنميط الإعلامي.

في هذا المشهد الشعري المكثّف:

«امرأةٌ تخرج من تحت الركام،
وتبحث عن ساقها المقطوعة،
وتربط الضمادة على الهواء»

     تظهر الصورة بوصفها تقريرًا ذاتيًا يتجاوز البثّ المباشر، ويخترق طبقات الوجع دون وسيط. فـ"المرأة" هنا لا تؤطّر كضحية مستسلمة، بل فاعل رمزي، تُمارس فعلًا بسيطًا–عظيمًا في آن: محاولة تضميد ما لم يعد موجودًا.

«ليست تربط الضمادة على الهواء» استعارة للفراغ فقط، بل رفض للغياب، محاولة لتثبيت ما انتُزع.  هذه صورة تختصر علاقة الإنسان المحاصر بجسده، بذاكرته، وبما تبقى له من معنى في مدينة مهددة بالمحو. وهكذا، تنبثق الصورة الشعرية من تحت الركام كعدسة داخلية ترمم ما لم تصوره الكاميرات، وتُعيد للإنسان حضوره الكامل وسط الركام

ثالثًا: التكرار الإيقاعي بوصفه عنوانًا للخبر العاجل

     في ديوان «غزة»، يتجاوز التكرار وظيفته الإيقاعية أو البلاغية التقليدية، ليؤدي دورًا شبه–إخباري، يُحاكي "الشريط العاجل" الذي تمرّر فيه القنوات الأخبار الساخنة بسرعة وجيزة. لكن الفارق الجوهري أن الشاعر لا يقدّم  مجرد معلومات قد تنقلها نشرات الأخبار ، بل يعيد تشكيل الوعي عبر عبارات متواترة تفيض بالشحنة الوجدانية والدلالة الرمزية.

نقرأ في إحدى القصائد:

«غزة تنزف
غزة لا تموت
غزة تُكتب بالدم
غزة تُقرأ من الجرح»

     تقوم هذه البنية التكرارية مقام التعريف الموسوعي بالمدينة، كل سطر يُضيف بُعدًا في الهوية، من خلال "ما لا يمكن نسيانه". وهنا يتحول التكرار إلى شكل من أشكال المقاومة اللغوية، يتحدى سياسة "التمرير الإعلامي" ويستبدلها بسياسة "الترسيخ الرمزي".

فـ«غزة» علامة متحرّكة، تتجدد وتتكثف، ليست اسمًا يُكرّر، بل جرحًا يتوالد في اللغة، لتُصبح القصيدة بذاتها نشرةً شعرية مفتوحة، ترفض الصمت، وتُجبر المتلقي على البقاء في حالة إنصات دائمة.

رابعًا: تمثيلات المرأة والطفل – من الضحية الساكنة إلى الفاعل الرمزي

     يتجاوز ديوان «غزة» النمط الإعلامي الشائع الذي يُفرغ المرأة والطفل من فاعليتهما ليُعيد إنتاجهما كـ«مجازر بصرية» تُستخدم لإثارة التعاطف العابر في نشرات الأخبار. على النقيض من هذا التوجه ، تمنح القصائد لهاتين الشخصيتين حضورًا جوهريًا بوصفهما عمقًا إنسانيًا للمأساة، وركيزتين في سردية الصمود ومقاومة المحو.

نقرأ:

«طفلةٌ تحتضن دفترها المحروق
وتطلب من الله سطرًا جديدًا»

     الطفلة هنا  بل نواة للكتابة الجديدة. احتضانها للدفتر المحروق مشروع سرد بديل. إنها لا تبكي على الماضي، بل تسعى لكتابة مستقبل بلغة نجت من النار. وهذا التمثيل يُفكك صورة الطفولة كـ"أيقونة دموع"، ويستبدلها بصورة الطفل ككاتبٍ قيد التشكل، يُنقذ ما تبقى من الحبر.

أما المرأة، فهي  «سيدة الطقس الرمزي»، الحارسة الصامتة لذاكرة الشهداء:

«أمٌ تغسل قميص ابنها الشهيد
وتضعه في الشمس
كي لا يصيبه العفن»

     هنا،  يتجاوز الغسل الطقوس الجنائزية؛ إلى  فعل مقاومة للزوال. إنها تغسل القميص لتحفظه من النسيان. «تضعه في الشمس»   لتعريض الذاكرة للضوء، للتوثيق، للتداول. فكل حركة تُنتج معنى يتجاوز الجسد إلى الرمز، والحداد إلى الاستمرارية. بهذا، تتحول المرأة والطفل من ضحايا إلى رواة، من خامات إعلامية إلى شخصيات شعرية تنسج سيرة غزة من الداخل، لا على هوامش الكاميرا.

خامسا : نقد التلقي الإعلامي الغربي – من تعاطف الشاشة إلى برودة الضمير

     يفتح ديوان «غزة» جبهة نقدية ضد آليات التلقي في الإعلام الغربي، حيث يُعرّي الشاعر زيف التعاطف العابر الذي يتحول إلى حالة شعورية استهلاكية، لا تترك أثرًا في بنية الفعل ولا في منطق العدالة. فالقصيدة تكشف  عن تقصير وسائل الإعلام، بثم  تتوجّه إلى المتلقي ذاته، الذي اعتاد استهلاك المأساة كمنتج درامي:

«ينام الغربيّ في سريره المخملي
ويحلم بغزة...
كقصةٍ تبكيه ولا توقظه»

     تلخص هذه الصورة المفارقة الأخلاقية في زمن التسليع: أن تُختزل غزة إلى «قصة» تبعث الدمع، لكنها لا توقظ الضمير. تتحول المعاناة إلى مادة قابلة للعرض دون أن تكون محفزة للفعل، في مشهد إعلامي يبدّل التضامن بالفعل الرمزي (الدمعة، الوسم، المنشور) ويُلغي أثره العملي. تُدين القصيدة هذا النموذج من التلقي السلبي، وتُحمّل المتلقي مسؤولية المشاركة في مسرحية "الرعب الجميل" الذي يبكي المشاهد دون أن يزعجه، ويؤجّج الضمير دون أن يوقظه.

سادسا : الرمز كبلاغة مضادة – إعادة إنتاج المعنى خارج النسق

     يُعيد ديوان «غزة» إنتاج الرموز المعهودة داخل سياق شعري مضاد لخطاب التطبيع والحياد، إذ تتحوّل المفردات اليومية إلى إشارات ثقيلة المعنى، تُنازع السرد الإعلامي الرسمي عبر تأويل بديل. فمن خلال إعادة تحميل الرموز بدلالات نقيضة، تتولد بنية شعرية تقلب المعنى المألوف، لتصبح اللغة ذاتها حقلًا للمقاومة:

  • الطين: لم يعد مادة الخلق كما في الكتب المقدسة، بل «بقايا جثث» في سياق الحرب.
  • الضوء: ليس كهرباء، بل بصيرة روحية وسط عتمة التعتيم.
  • الصمت: ليس خنوعًا، بل احتجاج أخلاقي لا يحتاج إلى تصريح.

ويكثّف البيت التالي هذه الرؤية:

«غزة صامتةٌ كالقبر،
لكنها تسمع ما لا يُقال»

     هنا  يتحول الصمت إلى أداة استماع حادة، تستوعب ما تعجز التقارير والبيانات عن نقله. إنها بلاغة مضادة، يُعاد فيها تعريف الإعلام كمؤسسة ناطقة، و كصدى للسكوت العميق، حيث يكون الصمت أبلغ من جميع التصريحات.

سابعا : غزة كعلامة لغوية–سياسية – من الاسم إلى الهوية البصرية

     لا يعمل العنوان «غزة» في الديوان كمدخل دلالي للنص، إنه رمز متكرر مشحون بطاقة تراكمية تجعل منه «ماركة لغوية مقاومة». فكل تكرار لاسم المدينة يضخ فيها معنى جديدًا، ويثبت حضورها كهوية متجددة في مواجهة المحو.

إن تكرار الاسم في بداية العديد من القصائد أو جُمَلها الأولى يجعل من «غزة» ما يشبه"  الماركة المسجلة " في الخطاب السياسي–الإعلامي، لكنها لا تُستهلك كصورة، بل تُستعاد كل مرة كحقيقة، كجُرح حي، كمرآة للضمير..

ثامنا  : ملاحظات رغم القيمة

     رغم القيمة العالية التي يحملها ديوان «غزة» من حيث التوثيق الشعري والرمزية والوظيفة الإعلامية البديلة، تكشف القراءة النقدية عن ملاحظات لا تنتقص من أهميته، بل تُبرز إمكانات التطوير. من أبرزها ميل بعض القصائد إلى المباشرة التقريرية التي تضعف الشعرية، وغياب التنويع الإيقاعي والتعبيري، ما يخلق نوعًا من الرتابة. كذلك، فإن تركيز الخطاب على الضحية على حساب التعدد الصوتي يقلل من حضور التجربة الفردية والانفعال الذاتي، ويفضي إلى هيمنة الخطاب الجمعي.

يُلاحظ أيضًا تكرار المفردات والصور (كالدم، الركام، الصمت) بشكل نمطي، مما يُضعف عنصر الإدهاش، إلى جانب غياب التحديد المكاني الدقيق الذي كان سيُغني البناء الواقعي للنص. كما أن تمثيل الطفل والمرأة، رغم قوته، يميل أحيانًا إلى البطولة النمطية دون تعقيد إنساني كافٍ. ويُسجّل غياب نسبي لبعض الرموز الفلسطينية الثقافية العميقة التي كان من شأنها ترسيخ البعد المحلي.

ختاما

     لا يبدو الشاعر في ديوان «غزة»، كاتبًا لقصائد، بل شاهِدًا على عصر المذبحة، وصوتًا نابضًا باسم المدينة التي تُختصر في لقطات على الشاشات. ، لا يكتب الشعر على هامش الحدث، بل من قلبه، كأن كل بيتٍ هو بيان، وكل صورةٍ بلاغة، وكل فاصلة وقفة تأمل أمام مجازر النسيان..

     تنبض الكلمات بروح غزة، وتنتقل من طور الرثاء إلى مقام التحدي. فلا الطفلة تنتحب، بل تكتب؛ ولا الأم تودّع، بل تغسل القميص وتعلّقه على الشمس. كل صورة تصير مرآة، وكل مشهد يصبح أرشيفًا بديلًا عن شريط إخباري سريع الزوال.

     هكذا، يصبح الشعر وكالة أنباء لا تحتاج إلى أقمار صناعية، بل إلى قلب حيّ، وإلى ذاكرة لا ترضى بالصمت. ومن بين الرماد، تنهض الكلمات، وتكتب غزة كما يجب أن تُكتب: مدينة لا تموت، بل تُقرأ من الجرح، وتُروى بالضوء، وتُسمع من الصمت.

 ______

* شاعر وناقد فلسطيني

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016