-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

رواية نهر يستحم في البحيرة يحيى يخلف/ الناقد رائد محمد الحواري

 

    لا يمكن التكيف مع التغييرات الجديدة دفعة واحدة، فهناك ارهاصات لا بد من المرور بها حتى يتم هضم الواقع الجديد، رواية "نهر يستحم في البحيرة" تتناول الفلسطيني العائد الى بلدته سمخ والمشاعر والاحداث التي لازمت رحلته، وبما أن العائد فدائي ومثقف فقد استعان بحالة الجندي الياباني "أونودو" الذي رفض قبول استسلام اليابان وبقي يعيش في الجزيرة التي كلف بمحايتها من الأعداء، لتكون مساعدة له على رفض قبول وجود الاحتلال.

الاحتلال

    إذن الرواية متعلقة بفكرة قبول الآخر، فكرة التخلي عن المبادئ، الأفكار التي حملها السارد عن العدو، عن الوطن الواحد، وهنا يستعين بحالة "أونودو": "ما أصعب أن يكتشف المرء أنه لم يعد له جدوى، وأن أيامه لم تعد ذات قيمة، وأن اجمل سنوات العمر ذهبت هباء" ص37، وهنا نطرح سؤال: هل أراد السارد بهذه الرواية توديع الماضي الثوري والقبول/ التكيف مع أوسلو، أم أنه أراد تأكيد ما كان عليه من ثورية ولتمسك بالثوابت الفلسطينية؟

أعتقد أن خاتمة الرواية تشبر إلى استمرار الصراع:

"ـ هل تحملون سلاحا.

ـ أجل... أجل معنا قنبلة

رفع الجندي سلاحه ، أين هي ..

    صرخ السيد أكرم في وجهه قائلا: القنبلة موجودة داخل صدي .. في أعماقي...أحذر من الاقتراب فقد تنفجر بين لحظة وأخرى" ص144، فرغم أن أحداث الرواية لا تتوقف كثيرا عند الاحتلال إلا أن المحطات القليلة التي تناولها السارد كانت كافية لتبيان حقيقة المحتل الذي لا يفكر إلا بعقلية الأمن، فـأثناء رحلته من غزة إلى طبريا وسمخ تم توقيفه أكثر من مرة، ففي بداية الرحلة والخروج من غزة كانت تفتيش الاحتلال بهذه الصورة: "في حاجز إيريز دققوا في أوراقنا، وفتحوا حقائبنا، كانوا يفتشون عن ضبع له أنياب" ص34، فالسارد بهذا المقطع يؤكد طبيعة المحتل الذي يشك ويتوجس خيفة من كل ما هو فلسطيني، من هنا وجدناه يتوقف في موضعين عند عنصرية المحتل الذي يتعامل بازدواجية: "إن اليهود يستطيعون الدخول، أما العرب فإن السيد أكرم وحده يستطيع أن يدخل لأنه يحمل جواز سفر أميركيا" ص136، وبهذا يكون السارد قد حسم موقفه من الاحتلال الذي لم يتغير أو يتبدل في طريقة تعامله مع الفلسطيني، مما يجعل أي تغيير في الموقف الفلسطيني تجاه المتحل يعد تراجعا/ قبولا بالواقع، واعترافا بالهزيمة.

    وإذا ما عدنا إلى نهاية "أونودو" الذي لم يستطع التكيف مع واقع اليابان الجديد، نصل إلى فكرة السارد/ فكرة الرواية التي ترفض القبول/ التكيف مع واقع أوسلو، وما أحدثه من تغييرات في الثوابت الفلسطينية.

    وهناك فارس لفارس الذي احتفظ بخاتم "بيرتا" اليهودية التي تم ترحيلها من لبنان ليبقيا بلا زواج، هو في لبنان وهي في فلسطين، رغم مرور خمسين عاما على حبهما الذي نشأ في طبريا.

    وإذا ما توقفنا عند فشل علاقة فارس ببيرتا نصل إلى فكرة الرواية التي تؤكد استحالة التعايش مع الاحتلال.

الفلسطيني والمكان

    السارد يتحدث عن كونه فلسطينيا في أكثر من موضع في الرواية، كما يتناول علاقته بالمكان، فبداية أحداث الرواية تتحدث عن الرحلة من غزة إلى طبريا، ليرى بلدته سمخ، وليبحث عن آثار خالة "عبد الكريم" الذي عاد إلى فلسطين من لبنان حيث تم قتله والاحتفاظ بجثته في ثلاجة لمدة تزيد عن الثلاثين عاما، فالسارد يكرر هذه الفقرة: "ليموت على شاطئ البحيرة كما تموت الغزلان" خمس مرات، كتأكيد على الحميمية التي تجمعه بالمكان، وعلى أن الفلسطيني لا يكون دون المكان/الجغرافيا التي نشأ وتكون فيها.

    يتحدث السارد عن هذه الحميمية بقوله: "لقد تعذبت ثلاثين عاما من أجل أن أعود إليها، وأركع فوق ترابها، وأتمرغ عند شواطئها، أقبل الأرض التي مشت عليها أقدام والدي الشيخ حسين وعمتي حفيظة وخالي عبد الكريم" ص41، نلاحظ اجتماعية المكان، فالسارد لا يتحدث عن مكان مجرد، بل مكان اجتماعي، من هنا تم ذكر من كانوا فيه، وأثرهم الباقي والعالق فيه.

    ويتناول التغييرات الجغرافية التي أحدثها الاحتلال في المكان يقول: "لم تعد هناك بيادر تكوم فوقها المحاصيل، وتقام لياليها حفلات السمر والغناء، انقرضت المسارب وانقرضت أصوات الجنادب والصراصير والحشرات المضيئة" ص81، إذا ما توقفنا عند التغيير/ التشويهات التي فعلها الاحتلال في سمخ، سنجدها في مضمون/ فكرة/ المقطع، وفي اللغة التي استخدمها السارد، فرغم أنه كاتب وروائي إلا أنه استخدم ألفاظا (عادية) ولم يستخدم تلك التي أطلقها أهل سمخ على الحشرات المضيئة (اسراج الغولة) ولا على صراصير الليل (الطزيز) وكأنه يقول إن تشويهات الاحتلال في "سمخ" طالت اللغة/ الألفاظ أيضا.

السارد والكاتب

    الرواية يسردها "يحيى يخلف" حيث نجده يتحدث عن بلدته سمخ، وعن كونه عائد مع العائدين: "من أين إذن؟

ـ من سمخ المحتلة عام 48 والتي تقع جنوب بحيرة طبريا" ص11، ولا يكتف بهذا يل يتناول ماضيه كفدائي وكيف كان يعبر الغور من شرق الأردن، وهذا يشير إلى أن السارد هو الكاتب، لكن بما اننا نتحدث عن روائي فقد عمل على تكسير وتيرة السرد كإشارة منه إلى كونه روائيا يتقن/ يبدع فيما يقدمه لنا: "أونودو يخرج من الدفتر، يزيح أسلاك السطور، وقضبان الكلمات، أونودو يصرخ: لقد نسيتني، وتركتني هنا في هذا الدفتر...حاولت أن تدخلني في معادلتكم وأن تلوي ذراعي وتحولني إلى دجاجة داجنة" ص141، وبهذا يكون الكاتب يحيى يخلف قد أكد حضوره كروائي وكسارد.

الرواية من منشورات دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان الأردن، رام الله فلسطين، الطبعة الأولى 1997.

 


إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016