عقم الثورة في رواية "قصة مدينتين" تشارلز دكنز، ترجمة صوفي عبدالله
قبل الدخول إلى الرواية أنوه إلى جمالية لغة الترجمة، فقد استخدم المترجم لغة راقية، عالية تتماثل مع عصر (النبلاء) وذلك زمن الذي كتبت فيه الرواية، حيث كانت القراءة والكتابة مقتصرة على الخاصة من الناس، وهذه اللغة هي من سهل تناول أحداث الرواية الدامية.
أحينا نلجأ إلى ما قرأنه أيام الشباب، لعلنا نستعيد به شيئا من معنوياتنا التي أنهكها التخاذل الرسمي وحتى الشعبي، من هنا لا بأس من التوقف عند هذه الرواية التي تؤكد (عقم) الثورات، وأن ما تمارسه (الثورة) من بطش وقمع، لا يختلف عن النظام الذي ثارت عليه وانقلبت، كما تبين الرواية عقم العامة وعلى أنهم مجرد قطيع سياق كيفما يشاء المتكلم، فبعد اعتقال "دارني" وتقديمه للمحاكمة طالبوا بشنقه والتمثيل به، لكنهم بعد أن استمعوا إلى الدكتور "مانيت" ومداخلته جعلوا من "دارني" بطلا وطنيا فرنسيا، وأخذوا يهتفون له متخذيه نموذجا في محاربة النظام الملكي، وهذا الموقف نجد في مسرحية "يوليوس قيصر" لشكسبير، فبعد أن هتفت العامة لبروتوس انقلبت عليه وعلى زمرته بعد خاطبهم أنطونيوس، وما نجده اليوم في المنطقة العربي من مواقف متناقضة وبصورة سريعة لعامة الناس، نتأكد أن هناك من يجيد اللعب على الأمزجة، ويجعل الناس ينقلبون على المفاهيم التي يحملونها بمجرد سماعهم كلمة من هذا أو ذاك.
فرنسا قبل الثورة
تتحدث الرواية عن القمع أيام الملكة، وكيف كان النبلاء يعاملون العامة التي اعتبروها بلا حقوق ولا كرامة، فكانوا في نظر النبلاء، أقرب إلى البهائم منهم إلى البشر: "وكيف قضى قرابة عشرين عاما في زنزانة انفرادية بالباستيل من عير أن توجه إليه تهمة أو يقدم لمحاكمة عادلة" ص116، ولم يقتصر الأمر على السجن فحسب بل طال طريقة تعامل النبلاء العامة التي طالبوها بأكل العشب، كما اغتصبوا النساء اللواتي كن في نظرهم حق مشروع لشهواتهم: "لأن العادة الموروثة أن يعتدي النبلاء على الفلاحات عند زواجهن كلما شاءوا، فلا تنجوا منهن إلا القبيحات والمشوهات، فامر الشقيق الأصغر بربط زوج أختي طول الليل في العراء، وفي الصباح ربطوه في العربة مرة أخرى... ثم خرجت روحه هو على صدرها... وعلى الفور حملت أختي من فوق جثة زوجها إلى الشقيق الأصغر، فاغتصبها وهي لا تكف عن الصراخ والعويل" ص148، هذا الصورة تعد مشهد مجموعة مشاهد جعلت الثورة مسألة حياة أو موت بالنسبة للشعب الفرنسي.
لكن الثورة كانت أكثر قمعا من النبلاء أنفسهم بعد انتصارها، وكأنها تؤكد معادلة: "لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة ومعاكس له في الاتجاه، من هنا وجدنا تصفية لعائلات النبلاء، بصرف النظر إن كانوا صغار أم كبار، نساء أم رجالا، فالثورة أصبح وسيلة انتقام أكثر منها ثورة على الظلم، لأنها مارست وفعلت ما ثارت عليه.
فرنسا بعد الثورة
وبعد الثورة كانت فرنسا تعاني من عين القمع والبطش والظلم الذي لحق بالآخرين، مما جعل الثورة أقرب إلى وسيلة انتقام منها إلى ثورة تغيير للنظام، نظام القمع والظلم: "فقد حوكم كثيرون، ولكن كثيرون أيضا لم يحاكموا ولقوا حتفهم بدون محاكمة" ص96، ولم يقتصر أمر القتل على المحكمة، أو من هم في المحكمة فحسب، بل طال أيضا كل من يتم القبض عليه: "أن هذه الجماعة من "الوطنيين" تشحذ هذه الأسلحة لتقوم بهجمات ليلية متتابعة على المقبوض عليهم ـ رهن المحاكمة ـ فيذبحونهم ذبحا، ويعودون يشحذون أسلحتهم الرهيبة كرة أخرى" ص104و105، وهذا ما يجعلها ثورة بائسة كحال النظام الذي ثارت عليه، ونتوقف هنا قليلا عند هذا الموقف، حيث أننا وجدناه في كل الدول العربية التي شهدت (الخراب العربي)، وما نراه اليوم في سورية يؤكد تكرارا للسيناريو الفرنسي أيام ثورتها واقتحامها للسجن الباستيل.
وعن الإعدامات التي تصدرها المحاكم وطبيعة (القضاة) الذين يصدرونها تحدثنا الرواية بقولها: "في يوم محاكمته قرابة عشرين متهما فرغت المحكمة من النظر في أمرهم في أقل من ساعتين، وقضت عليهم واحدا واحدا بالإعدام... صار الآثمون هم الذين يحاكمون الشرفاء، وحثالة القوم هم الذين يتحكمون في مصائر الصفوة وأهل الكياس والثقافة والتهذيب" ص126، اللافت في هذا المقطع أننا وجدناه في سورية بعد مجزرة الساحل السوري، فبعد أن تم إعدام أكثر من أربعين ألف مواطن، خرجت لنا اللجنة المكلفة بمتابعة التحقيق في المجزرة بتقرير تتهم فيه (فلول النظام السابق) وأن (الحكومة السورية الجديدة) تقوم بحماية كل المواطنين السوريين، ولكن، إذا ما توقفنا عند أعضاء اللجنة ومن شكلها وطبيعتها سنجدهم مجموعة من القتلة الإرهابيين الذين اعتادوا على القتل دون حسيب أو رقيب، وهذا ما يجعل رواية "قصة مدينتين" تتكرر في زماننا هذا وفي بلدنا سورية، بحيث نجد الحثالة والمجرمين هم من يتحكمون في البلاد وفي رقاب العباد.
الرواية من منشورات روايات الهلال، جمهورية مصر العربية، العدد 187، يوليو 1964.
إرسال تعليق