-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
الإثنين 7 أبريل 2025 م / 8 شوال 1446 هـ  

شِعرنا القديم حامل خبرات العصور / الشاعر عبد الرحمن الطويل

 

مِن محاسن الشعر العربي أنه اضطلع في تاريخ العرب بدورٍ أكبر مِن الإبداع الفني والإمتاع به، لقد حمل أدب الصحراء الذي أدّبَ العرب الجاهليين، إلى الأجيال اللاحقة من العرب المتمدنين بعد الإسلام، وإلى الأعراق الأخرى التي استعربَت واندمجَت في منظومة الحضارة العربية الإسلامية، ليظل حاضرًا في التكوين الوجداني والمعرفي للعرب في حواضر العراق والشام ومصر والمغرب والأندلس، بعد أن انتقل ثقلهم السكاني والثقافي إليها، وعادت الصحراء هامشًا بعد أن كانت مركز إنتاج أدبهم ومعرفتهم.
ولستُ أعني بالأدب هنا التعاليم الأخلاقية التي يُوجهها الكبير إلى الصغير، كما لا أعني الأشكال الفنية مِن شِعر ونثر، بل أقصد الخبرة الحياتية التي تستطيع حشد المعاني وإدراك علاقاتها ودقيق تشابهاتها للاستفادة بها في مواقف الحياة المختلفة، ونقلها مِن موقف الخبرة السابقة إلى موقف الحيرة الجديدة، نقلًا يُصيب غايته مهما تطور نمط العيش وتغيرت المواد التي تُنشئ تصورات الإنسان للأشياء.
ولمّا كانت الصحراء شديدةً على ساكنها كان أدبُها شديدًا على النفس، يُجبرها على جمع المعاني المتباعدة واستدعائها مِن مكامنها، وتوظيف التصورات المحدودة في غير مقاصدها، لأنّ الصحراء القاسية تضيق عن الرحمة بحائر فيها لا يُحسن تدبير أمره ولا يستطيع الحيلة لنفسه. وكان انتقال هذا الأدب مِن ممارسات الصحراء العملية إلى تصورات الحياة الذهنية أنفع تأديب للإنسان الذي ينشأ عليه ويتلقاه، وأكبر إثراء للشعر بخُلاصات المعارف التي ولّدتها التجارب الصعبة لتصلح دستورًا لكل إنسان، وامتلأ الشعر العربي بهذه الأبيات التي سارت أمثالًا فظنها المتأخرون حِكًمًا وحاولوا في أشعارهم الصياغة على منوالها، لكنّها في الحقيقة لم تكن حِكًمًا ولا مواعظَ، بل كانت مفردات المعرفة الحياتية ولحظات الكشف في التجربة الإنسانية، التي انبعثَت شديدةَ الإشراق والوضوح حتى باتت إذا مرّت بسمع إنسان قال: نعم هذا حق، أو هذا أنا!
مِن بين آلاف الأبيات التي طبقت الآفاق لهذا السبب، أقف طويلًا مع أبيات بشار بن برد الشهيرة التي يقول فيها:
إذا كنتَ في كل الأمور معاتبًا
صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أو صِل أخاك فإنه
مقارفُ ذنبٍ مرةً ومُجانبه
إذا أنت لم تشربْ مِرارًا على القذى
ظمئتَ وأي الناس تصفو مشاربه!
وفي هذا البيت الأخير تُشعُّ فكرة المقال مِن كل جوانبها، فهذا المعنى ابنُ الصحراء، التي اعتاد ابنُها أن يشح فيها الماء وينقطع، فلا يدري متى يُقابله في ترحاله المستمر! وقد يصادف بعد طول الحر والظمأ عينَ ماءٍ فيجد فيها القذى، وهو كل ما يعرض للماء مِن أشكال التلوث، مِن تراب وتبن ووسَخٍ وذباب، والماء في الآبار قليل راكد، فيُضطر إلى الشرب منه -على قذاه- حتى لا يهلك ظمأً لأنه لا يدري متى يجد غيره!
سافر هذا المعنى مِن خبرة الصحراء العملية إلى البصرة حيثُ وفرة الماء مِن اجتماع دجلة والفرات في شط العرب، وسافر مِن العربي البدوي إلى بشار بن بُرد الفارسي المستعرب وحفيد ملوك الفرس والموصوم بالشعوبية وكراهية العرب، ليؤدي وظيفةً جديدةً في أدب الحياة، صلة الصديق على عيبه لأنه لا أحد يخلو من العيوب، ومَن طلب إنسانًا بلا عيب لم يجده، وسيهلك بالوحدة مَن لم يعاشر صديقه على عيبه، كما هلك بالظمأ من لم يشرب الماء على قذاه.
مِن أجل هذا روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه". وفيه قال أبو تمام:
ولولا خِلالٌ سَنّها الشِّعرُ ما درى
بغاةُ العلا مِن أين تؤتى المكارمُ
هذه الخِلال أرفع بكثير مِن أن نُصنّفها حِكَمًا ومواعظ، ومِن أن نحاكيها بالحِكم والمواعظ، إنها تجارب الحياة وخبراتُ الشعور الإنساني الذي هو جوهر الشعر، والذي هو سر خلود شعرنا القديم.

التعليقات

إرسال تعليق



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016