في
قصيدة "أسطورة الفراغ" لأحمد الخطيب، تتجلى صورة الفراغ كرمزٍ أساسي
يعكس أبعادًا فلسفية معقدة. يقدّم الشاعر هذا الفراغ ليس كغموض أو فراغ مادي فحسب،
بل كوجودٍ يختلط فيه الموت والحياة، ويشكل حالة من العدمية والضياع. الفراغ هنا لا
يُفهم فقط كغيبوبة من نوع ما، بل هو حالة وجودية يتعذر على الإنسان فهمها أو
تحديدها، مما يعكس العجز البشري عن إيجاد معنى حقيقي في عالم يسوده التشويش
والفوضى. هذا الفراغ هو شبحٌ يطارد الإنسان في سعيه المتواصل نحو إجابات غير قادرة
على إشراكه في عالمٍ مليء بالأسئلة التي لا تجد جوابًا.
تبدأ القصيدة بـ"الفراغ نشيد الغبار إلى
القافية"، ليعكس الشاعر من خلال هذه الصورة علاقة الفراغ بالغبار كرمز للتحلل
والانهيار. الغبار هنا ليس فقط مكونًا ماديًا، بل هو إشادة بنشيدٍ لا نهاية له،
كأنما هو كائنٌ حي يرافق الإنسان في رحلته من الوجود إلى العدم. هذا الغبار، الذي
لا يتوقف عن التراكم، يصبح بمثابة صوتٍ مكتوم يحمل بين طياته لحنًا مشؤومًا يعبر
عن الحزن والفقدان. الفراغ في هذا السياق لا يُظهر ذاته فقط كغيبٍ بارد، بل هو
حالة ديناميكية تستمر بلا انقطاع، وتغلف الحياة بالضباب.
يواصل الشاعر تصوير الفراغ على أنه مرارة من
لا يسمّي الغبار يدًا. هنا، يشير الشاعر إلى العجز الذي يعيشه الإنسان في محاولة
فهم ما يحيط به. الكلمة "يدًا" تنطوي على علاقة الإنسان بالعالم، إذ إن
اليد رمز للعمل والتفاعل مع البيئة، بينما الفراغ يعكس غياب هذا التفاعل الحيوي،
مما يفضي إلى مرارة متواصلة.
لا يمكن للإنسان في هذا الفراغ أن يحدد ما إذا
كان يعبر عن الحياة أو الموت، بل هو في حالةٍ من الانفصال عن الوجود ذاته. كما
يظهر الشاعر في الصورة اللاحقة "والحياة سؤالًا عن الموت"، حيث يصبح
الوجود مسألة غير قابلة للحل. الحياة تتضاءل إلى مجرد سؤالٍ حول الموت، والموت
يتحول إلى ريش نعامٍ، رمزية للفراغ الذي يطال كل شيء. الريش، الذي يشير إلى الخفة،
يرمز في هذا السياق إلى الفراغ الذي لا يمسك بأي شيء ملموس، كما أن الموت يصبح
مجرد وسيلة هروب من الواقع المتخم بالأسئلة الفلسفية دون إجابات حاسمة.
ينقلنا الشاعر في الجزء الثاني من القصيدة إلى
صورة الفراغ يد الأرجوان التي تطال رؤى الناس ليلًا، مما يعمق أكثر من شعور الغموض
والغياب. الأرجوان هو لون يرمز إلى الرفاهية والسلطة، ولكن هنا يأتي ليتحول إلى صورة
من الظلام الذي يغمر الأشخاص في الليل، حيث تبقى الرؤى محاطة بالغموض والضياع. لا
تُشبع هذه الرؤى العطش البشري للمعنى أو الحقيقة، بل تظل ناقصة، تائهة، كما هو حال
الإنسان في هذا الكون الذي يسوده الفراغ. الشاعر هنا يستعرض حالة من البحث اليائس
عن الحقيقة في بحرٍ من الظلال، حيث لا تلوح إجابة إلا في شكل أسئلة غير قابلة
للغرق.
في التصوير الشعري التالي، يكتب الشاعر عن
يغزل ثوب الرماد حياة الفراغ. الرماد هنا يشير إلى المحو، إلى ما تبقى بعد
الاحتراق، كأنما الحياة تمضي بلا معنى، وتتحول إلى شيء هش وزائل. الحياة في هذا
السياق تصبح مجرد إعادة تركيب لشيء ضاع، لا ينتمي إلى الماضي ولا يمت إلى المستقبل
بصلة، بل يظل عالقًا في الحاضر الذي هو بدوره فراغ من نوع آخر. الشاعر بذلك يعكس
رؤيته الخاصة للوجود كحالة دائرية لا نهاية لها، حيث يظل الإنسان يكرر نفس الأسئلة
دون أن يحظى بالإجابات التي يبحث عنها.
إن تصوير الشاعر للفراغ في صورة تناص بعيد
يشير إلى تداخل الزمان والمكان، وإلى تلك الانقطاعات التي يعيشها الإنسان بين
الماضي والحاضر. هذه الانقطاعات تتحقق في حالة من الاستفهام المستمر، حيث لا تنتهي
الدورة الوجودية للإنسان، بل يستمر في البحث، في الركض وراء سراب الفهم، الذي يظل
بعيدًا عنه. حتى في بحثه هذا، لا يجد سواه في الطريق، ولا يصادف سوى أبراج عارية،
وهي صورة مأساوية للوضع الذي يجد فيه الإنسان نفسه، وحيدًا في عالمه، فاقدًا للهدف
وللحضور الاجتماعي.
وفي السطور الأخيرة، يتحول الشاعر إلى حالة
عميقة من الوجود الداخلي الذي يتخلله الألم والتساؤل. كان مثلي يقلِّب آخر خيط
ينام على عطش يعكس هنا حالة الإنسان الذي لا يزال يبحث عن أمل أو خيط رفيع من
الأمل، لكنه دائمًا ما يصطدم بحقيقة أن هذا البحث هو في ذاته جرحٌ غير قابل
للشفاء. هذه الطعنة الشافية ليست سوى صورة رمزية للصراع الذي يعيشه الإنسان مع
ذاته ومع معنى وجوده، فلا شيء يمكن أن يشفيه، ولا شيء يمكن أن ينقذه من حالة
الفراغ التي تحيط به.
القصيدة في مجملها لا تترك مجالًا للراحة أو
الهروب من الأسئلة الوجودية التي تواجه الإنسان، بل تقدم صورة عميقة للوجود البشري
الذي يعيش في عالم يسوده الفراغ، حيث تظل الأسئلة بلا إجابة. هذه الأسئلة هي التي
تشكل مسار الحياة بالنسبة للشاعر، وهي التي تعكس نظرة فلسفية حادة حول معنى الوجود
وعلاقته بالموت
…
القصيدة: أسطورة الفراغ
......
الفراغُ نشيدُ الغبارِ إلى القافيةْ
نهارٌ حزينٌ تكلَّمَ حين تمادى
على جسرهِ ذات ليلٍ
وطاف بنا حول ناي الرعاةِ
إلى الهاويةْ!
***
الفراغ مرارة مَن لا يسمّي الغبارَ يَدًا
والحياةَ سؤالًا عن الموتِ
والموتَ ريشَ نعامٍ
ينام على عطشٍ لائذٍ بالسَّراب!
والفراغ يد الأرجوانِ
تطال رؤى الناسِ ليلًا
لتسكنَ إطلالةً عاليةْ
***
في التلال القريبةِ
يغزل ثوبُ الرمادِ حياةَ الفراغ
لتسقطَ في الحالِ
هذا تناصٌ بعيدٌ
لأمشي، إذًا، باتجاهِ الكنايةِ
لا غيمة تشبهُ الآنَ رأسَ التلال البعيدةِ
لا حارة نائيةْ
ولا مِن صديقٍ هنا في الطريقِ
يؤثِّث أبراجَهُ العاريةْ
***
هكذا مرَّ في لعبة الموتِ
ثمَّ اكتوى بالجوارِ
ونامَ على لغةٍ جاريةْ
***
كان مثلي يقلِّبُ آخرَ خيطٍ ينام على عطشٍ
ويصاب بأكثرَ مِن طعنةٍ شافيةْ
إرسال تعليق