-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

العبور إلى الحقائق، وبناء الذات في أوروبا / قراءة الشاعر نجيب كيالي

 

الممر- رواية جديدة- للدكتور: محمد طلال المعلم

 

وصول هذه الرواية إليَّ على شكل هدية أسعدني، وخصوصاً أنها من شاب كنتُ أحبُّه، وما زلت مذ كانت بيننا علاقةُ أستاذ وتلميذ في مدينة إدلب هو مؤلفها: محمد طلال.

التهمتُ الكتاب خلال ثلاثِ جلسات قرائية، وبعد طيي لصفحته الأخيرة ورحلتي معه في عوالمَ رحبة، يمتزج فيها خيطان من المؤلم والممتع أبدأ هذه القراءة بسؤال ألحَّ على رأسي: لماذا كلَّلَ الكاتب رحلة بطله الإيجابي المميَّـز غياث بالموت؟! لا بدَّ قبل الإجابة من استعراض محتوى الرواية، ومحتواها يتصل معظمه بالتراجيديا السورية التي بدأت عام 2011، وكان عرضه لجوانبَ من هذه التراجيديا ذا خصوصية مختلفة مائزة  وجدتُ أنَّ عنوان الرواية يُشكِّل (كُوداً) أساسياً لفتح أبوابها، والسباحةِ في جُـوَّانياتها. إنه موظَّفٌ توظيفاً عضوياً، ففضلاً عن أنه جاء عتبةً أولى، لكنه يتابع فاعليته في جميع أجزاء الرواية تقريباً، إذ نراها مجموعةَ ممراتٍ كلٌّ منها يفضي  إلى دنيا جميلة أو قبيحة من ورائه. سأتوقف أمام بعضها:

الممر الأول: تجربة البحر: حَلُمَ راكبو البلم من الرجال والنساء والأطفال- وأكثرهم من السوريين المطارَدينَ بالحرب والموت- بمرور آمن عَبْرَ البحر من تركيا إلى الشاطئ اليوناني، المُهرِّب القذر بعد أن قبضَ المال نأى بنفسه، وسلَّمَ دفةَ القيادة لغياث، أو أحرجه لقبول ذلك، وغياث- بالمناسبة- هو بطل الرواية، ويمكن أن نسميه (أوليس) الرحلة، فقد عارك البحرَ والأهوال، وحاول النجاةَ بالبلم وركَّابه عندما انصبَّتْ عليهم خراطيمُ المياه من زورق يعادي اللاجئين. المهمُ أنَّ السوري يجد نفسه هنا أمام عدوانٍ آخرَ على حياته يُمارَس عليه خارجَ بلده!

شخصياتٌ مثخنة بأزماتها، ومضطرةٌ للانسلاخ عن أرضها وذكرياتها، لكل منها برميلُ عذاب يغطس فيه.  

الممر الثاني: صداقة مميزة: هنا يفتح لنا الكاتب ممراً لنرى شيئاً إنسانياً عظيماً وسطَ الأهوال، هو ألقُ الصداقة البشرية البسيطة العميقة التي قد تولد في أحلك الظروف، فتبني خلف الناس جداراً متيناً يسندون إليه ظهورهم، وتمتاز هذه الصداقة بأنها عابرةٌ للأعمار أو للأجيال، فهي بين الشاب غياث، والطفل رفيق.

 الممر الثالث: عالم السُّجون: وهو من أكثر الممرات أهميةً في الرواية حيث الخرابُ الكبير للبلدان يبدأ من هنا، فنرى دنيا السجن الرهيبة في الدول الديكتاتورية، وتَعلَقُ بآذاننا صرخاتُ المعذَّبينَ، فلا تغادرها! يتاح لنا ذلك من خلال عمر، وهو سجين سابق يروي لصديقه غياث تفاصيلَ اعتقاله. تأخذ القارئَ موجاتُ ذهول متوالية من غرائبية الوقائع، فعمر مهندس أوقع به زميل فاشل في العمل، والإيقاع اعتمد على كلمة واحدة إذ وصفَ أحداث بلده سهواً أو بزلة لسان أنها ثورة، وكان عليه أن يقول أحداث أو أعمال شغب. يتلقَّى عمر وجبةَ الضَّرب الافتتاحية- التي تعادل كلمة: أهلا وسهلا- في السيارة التي تقوم بنقله لمكان الاعتقال، ومعها يكسر له العناصر اثنين من أضلاعه!

الممر الرابع: الحب البريء العظيم: يتضح لنا في هذا الممر حبٌّ جميلٌ متوثب من حقه أن ينمو بين غياث وزميلته ملاك في كلية الطب، فقد بدأت المسألة بينهما عندما التقاها في كفتيريا الكلية، وشربا القهوةَ معاً، وكانت تطلب مساعدتَهُ في مادة عِلْم الأجنَّة، لكنَّ الحب يضيع في مَهب التراجيديا السورية التي عصفتْ بكل شيء، يقول واصفاً حالته في ذلك اللقاء: (حينها صار لي من كل شيء شيئان.. فمٌ يحكي لها عن المادة، وفمٌ آخر يهمس معاني اللهفة، عينان تنظران إلى الكتب والأوراق، وعينان تغرقان في عينيها) ص 215.

الممر الخامس: شخصية فاعلة في عالم الغرب: جَعَلَنا الكاتب نوغل هنا في الروح الإيجابية لبطله غياث، فلم تقتصر فاعليته على دوره في رحلة البلم، لكنه يفيض عطاءً على ما حوله عندما يستوطن قريةَ (أودربرغ) بألمانيا. إنه- رغم بعض مظاهر الرفض- كان يتحرك ويرنُّ كالطاسة، فيساعد روبرت في حلب الأبقار، ويُعين ويلدا في إصلاح سقفها، ويعمل مع السيد والسيدة بلاو عند حصد البطاطا، فصار داخلَ قلوب الجميع بعد حين باستثناء العجوز فراو فلايشمان.

عند إلقاءِ نظرة على هذه الممرات نجد أنَّ الكاتب جعل من روايته مجموعةَ غرفٍ سردية مفتوحٍ بعضُها على بعض، أو جزرَ حكايات متواصلة متآخية يسهل التنقلُ بينها، وإنْ كان لكل غرفة وجزيرة طعمها الخاص، إنه يدعو القارئَ للتشاركية والتفاعل عندما يفتح له ممراتِ الرؤية، فيستفظع ما يجري كما في ممر السجن، ويصفّق للمحبة النقية الرائقة كما في ممر الصداقة، وغيرِ ذلك، ومن الجميل اللافت في هذه الرواية أنَّ الكاتب أعلن في بدايتها أنه لم يخض بنفسه تجربةَ الهرب لأوروبا، لكنه عايشها قلباً وقالباً في تجارب سواه، وهذه الجزئية تغري القراءَ- كما أعتقد- بأن يعايشوا ويعيشوا مع أبطال روايته تجربتَهم التغريبة بمرها وحلوها، وأن يلتحموا بكل تجربة نبيلة.

المهم أنَّ رواية الممر- كما جرى معي- تَخِزُ القارئَ وَخَزاتٍ عميقة أو تُشكَّل عنده زلزلةً نفسية، فيضغط على أسنانه، ويسأل: لماذا هجرَ هؤلاء وطنهم، وصاروا أيتاماً دون أرض؟ ولماذا مات أكثر من نصف ركاب البلم؟ ولماذا قتل اليأس روحَ نور أخت غياث؟ فرفضت استقباله! ولماذا كان الضابط محمود ينقضُّ على المدنيين بحمولة طائرته، ويحظى بترقية؟!

لا شكَّ أن الرواية تشير إلى الخلل القائم في بنية نموذجٍ من الإدارات العربية الحاكمة، تلك التي تُرسِّخ نفسَها بمسامير الاستبداد، فتتشظى معها الأوطان، وتتفتت الروابط، ويفقد المتحابون بعضَهم، ويرفع الحزن رايته على القلوب، وتبكي الديارُ المهجورةُ أهلَها الراحلين.

نتذكر بهذه المناسبة رواية 1984 لجورج أورويل، حيث بلغ كبتُ الحريات ذروةً عالية، فبطلها وينستون يعيش في غرفة واحدة، وطعامه محدَّد بالخبز والنبيذ، وتنتشر في المبنى كاميرات وميكروفونات سرية للمراقبة! ويجري تدريب الأطفال للتجسس على ذويهم!

نظرة في شخصيات الرواية: هي شخصياتٌ مثخنة بأزماتها، ومضطرةٌ للانسلاخ عن أرضها وذكرياتها، لكل منها برميلُ عذاب يغطس فيه. إنَّ الواقع الذي جاءت منه مُروِّع، ففضلاً عن عنف السلطات هناك التخلف الاجتماعي والإرث الثقيل الكبير، لكنَّ بعضَ هذه الشخصيات ظلَّ رهيناً لأزمته إلى أن قضتْ عليه كعمر السجين الذي أمضى بقية حياته في ساحة بريمن بألمانيا يعرض لوحاتِ الضحايا السجناء الذين انتزع التعذيب أرواحَهم، وعبود الذي اشتغل في الممنوعات بأوروبا، ولم يسعَ لإصلاح نفسه، فتمَّ القبض عليه، ونور أخت عمر التي أنهكتها الظروف، فرفضتْ أن تتعرَّف على أخيها غياث الذي تحبه! بالمقابل تطالعنا في الرواية شخصياتٌ تتمتع بقدر كبير أو صغير من الجدوى والفاعلية الإنسانية، فمحمود كبَّة وابنه بَنَيا حياةً جديدة ناجحة في النمسا، والصبيَّة جود انطلقتْ إلى السويد، ونجحتْ في استنبات وجودها هناك، والضابط محمود تستيقظ صيحاتُ ضميره- ولو بشكل متأخر، بسبب ما ألحقه بالمدنيين- فيسلّم نفسه للسلطات في بلد اللجوء، أمَّا الأكثرُ بهاءً بين الشخصيات كلها فهو غياث حيث نراه في البرزخ بين منطقتي الواقع والحلم، وكأنَّ الكاتب أراد أن يقول من خلاله: السوري الصالح يكون هكذا. لقد كان حقاً شعلةَ صمود وصبر وغوث، وحصاناً جامحاً للتفاعل والعطاء، فمع ما ذكرتُه عنه في السطور السابقة كوَّنَ رابطةً، اسمها جمعية B153، كانت ذاتَ هدف نبيل هو خدمةُ رفاق رحلة البلم بعد وصولهم لأوروبا، والتواصلُ معهم ومساندتُهم عند الأزمات، وقد ارتفعت أسهم التقدير له عند الألمان أنفسِهم في قرية أودربرغ، فاختاروه لمنصب العمدة، وحتى العجوز فراو فلايشمان صفا قلبها نحوه، فكتبت له ثروتها!

في الأسلوب الروائي: استعمل الكاتب في مسروداته أسلوبَ الراوي العليم غالباً، ولهذا الراوي درجات، كما يقول النقد، هي: الراوي العليم جداً، والعليم بمستوى القارئ، والعليم أقلَّ من القارئ، فكان المؤلف محمد طلال يتنقل بين هذه الدرجات الثلاث، وقد يتنحَّى، فنشعر بأنَّ الحدث يقوم برواية نفسه، وقد امتلك صاحبُ الرواية عيناً جمالية، فكان يلتقط بمهارة بدائعَ الجغرافيا الأوربية، وما في مدنها من ساحاتٍ رحبة وحدائقَ وتماثيل، ولم ينسَ أن يتغنَّى بمحاسن بلده إدلب، فيقول مشاكلاً قولَ أمين معلوف في روايته سمرقند : ليستْ سمرقند يا رفيق.. لو قُدِّرَ لكَ أنْ تخرجَ من هذا الكونِ، وتنظرَ لهُ من بعيدٍ لما رأيتَ إلّا دُرَّةً تُشِع كشُعلةٍ من نُور.. إنّها إدلب، بقعةُ ضوءٍ لامعةٌ وسطَ مُحيطٍ شاسعٍ من الظُّلُمات.

ورغم طول الرواية التي بلغت 276 صفحة، ومع أني شخصياً أنفر من الكتب الطويلة وجدتُ نفسي أطير فوق صفحاتها، ربما بسبب البنية التشويقية المتصاعدة والحرص على التقاط الجوهري المؤثر من لباب الوقائع والمجريات.

وحريٌّ بنا أن نلاحظ استعانةَ المؤلف بلعبة الإيهام بين أدواته، فبعد تفاعلنا الواسع مع شخصية الطفل رفيق، وقد رأينا صحبتَهُ العميقة الفريدة لغياث، وتمازجَ حياتهما نكتشف في آخر الرواية أنه شخصيةٌ وهمية، حيث يدور حوارٌ بينه وبين غياث نفهم منه أنه ظلَّ عند سن السادسة، بينما وصل غياث إلى عمر39. إذن.. رفيق هو غياث الطفل، احتفظ بعمره وطفولته، وحضوره القويّ في نفس غياث حتى بعد أن كبر، وكان يضخُّ الجمال والحيوية والبراءة في حياته.

كذلك امتلك الكاتب القدرة على توظيف على عددٍ من المعارف الهامة التي جاءت في روايته توظيفاً مندغماً في السرد، متوائماً مع ضرورات الحكاية بعيداً عن الاستعراض وتكوينِ نتوءاتٍ ضارَّة، منها مثلاً معرفته بمنظمة يوغندامت الألمانية التي تهتم بالطفل، وتلتفت لحماية حياته وحقوقه.

أعود الآن إلى السؤال الذي طرحتُه في مطلع هذه القراءة: لماذا مات غياث البطل الأساسي في الرواية مع ما يتمتع به من فاعلية عليا، ومزايا إيجابية سبقت إليها الإشارة؟ الجواب المبدئي أنه صُدِمَ صدمةً فظيعة من رفض أخته نور له، لكنني أظنُّ أن النص يقول لنا: إنَّ التراجيديا السورية لا فرارَ منها، فإذا لم تقتلك بنفسها قتلك أحد أذيالها!

*

الممر- رواية عن دار نرد

276 صفحة- طبعة أولى عام 2024

                                              

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016