-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
الخميس 17 أبريل 2025 م / 18 شوال 1446 هـ  

القهر في قصيدة "اعتذار" سامي البيتجالي / الناقد رائد محمد الحواري

 

  لا شيءَ غير الموت ِ
في الأخبار ِ من أنباء
أغفو ، و لا أغفو.
و أصحو، ، ليت لا اصحو ،
على الموتى
لم يبقَ شيءٌ لم يمتْ
هل ندفِن الاحياء؟
تعبنا من نداءِ الله
يا اللهُ ما رجعَ الصدى صوتاً
و قد رجعَ الصدى صمتا
هذي الجحيم لأهلِ غزّةَ
فادخلوا فيها
و غزّةُ داخلي
و أنا البعيد عن القيامةِ
و القيامةُ داخلي ، بيتاً و وقتا..
تُذكّرني ابنتي:
لا تنسّ يا أبتي دواءكَ
أنّ ضغطاً في شراييني
من الأحزانِ
و الخفقانُ مضطربٌ
و هذا الفكرُ شتّى
تعلو جراحاتي
و يعلو الواقفون على جروحي
ثمّ ينصحني طبيب القلبِ
أن لأ أحمل الأثقال
أنّ تَضَخُّماً في الأورطي ِّ
يكاد يقتلني
فأين أفِرُّ من أثقالِ روحي ؟!
و تَعجبُ زوجتي
أنّي شربت الخمرَ
إذْ حضرَ الضيوفُ
لعلّني أنسى
و أحيا ،لو قليلاً ، سكرتي
فالخمرُ يحجبُ صورةّ الموتى
و يُخفي كذبتي
ثمّ اعتذرتُ لها
إذاِ انصرفّ الضيوفُ
و عاد وجه الموتِ
يسكن صحوتي
أني شربتُ الكأس يا امرأتي
لنخبك
و سَكرتُ كي لا تُحرجي
من دمعتي
قالت ،و قد حبستْ
جفونُ العين دمعتها ،
لا تعتذرْ إلا لشعبِك"!
عندما قرأت قصيدة "اعتذار" تأكد لي أن الألم الفلسطيني ما هو (جينات) تنتقل من فلسطيني إلى آخر، بصرف النظر عن مكان تواجده، فما دام المتلقي/المشاهد/السامع فلسطينيا، فسينعكس أثر الألم عليه، حتى أنه يتألم كحال المتألمين أن لم يزد تألما.
الشاعر "سامي البيتجالي" فلسطيني يعيش في جنة الحالمين العرب/(أمريكيا)، ومع هذا نجده يعيش الجحيم بعينه، فكيف يحدث هذا؟ وما هي الأسباب وراء هذا الجحيم الذي نقرأه في "اعتذار"؟
من هنا سنتوقف عند القصيدة لنجيب على ما سبق، ونعرف الأسباب الكامنة وراء هذا الأمر، بداية نجد الموت والمجازر في كل مقطع، حتى أن الموت تفشى بين الألفاظ، بحيث لم يعد هناك مكان/مساحة بيضاء يمكن أن (يستريح) عندها الشاعر، فحاله في القصيدة كحال أهل غزة (لا مكان آمن لهم) ولا ألفاظ آمنة في القصيدة، فألم الشاعر يكمن في تكرار العديد من الألفاظ: "اعتذار، الموت/الموتى/يمت، أغفو، أصحو، الله، لم، الصدى، غزة، القيامة، داخلي، تعلو/يعلو، جراحاتي/جروحي، الأحزان/تحزني، شربت، الخمر، الضيوف، سكرت/سكرتي" وجود هذا الكم من الألفاظ المكررة، له دلالة تتمثل في أن الشاعر (فقد) اتزانه بحيث (ضيع) ولم يعد يتحكم فيما يقول، فجاءت ألفاظه/كلماته تدل على حالته البائسة، فالمصاب يكرر كلمات بعينها دون أن يعي ـ فحال تنقله بين كلمات معينة في القصيدة يتماثل مع حال أهل غزة الذين يكررون نزوج الأمكنة، ومع هذا يبقوا في دائرة الموت/الخطر.
ونلاحظ أن الشاعر "سامي البيتجالي" في هذه القصيدة، "اعتذار" (فقد) قاموسه اللغوي فوقع (أسيرا) لألفاظ بعينها، وأمسى (عاجزا) عن إيجاد كلمات/ألفاظ تخدم (شاعريته) كما عجز أهل غزة عن إيجاد مكان آمن لهم.
وإذا ما توقفنا عند الألفاظ القاسية سنجدها تعم القصيدة: "الموت/الموتي/يمت، ندفن، تعبنا، ما رجع، الجحيم/ البعيد، القيامة، ضغطا، شرايني، الأحزان/تحزني، مضطرب، شتى، جراحاتي/جروحي، أحمل، الأثقال، تضخما، يقتلني، سكرتي، يحجب، يخفي، كذبتي" وهذا ما يجعل ألفاظ القصيدة تخدم فكرة الألم الذي يمر به الشاعر.
وهذا أيضا متماثل مع واقع أهل غزة الذي ينتقلون من الموت إلى القتل، إلى الحرق، إلى أشلاء، إلى المجهول.
إذن الألفاظ أوصلت فكرة الألم، وعلى أن الشاعر (أضاع لغته وفقدها) وهذا ما استدعى استعانته بالله، ألسنا نلجأ إلى الله وقت الخطر/الضيق/الشدة؟:
"لم يبق شيء لم يمت
هل ندفن الأحياء
تعبنا من نداء الله
يا الله ما رجع الصدى صوتا
وقد رجع الصدى صمتا"
هذا المقطع يمثل ذروة اليأس/القنوط، فحتى الاستعانة بالله لم تعد تمنع الموت والقتل، هذا هو مضمون/فكرة المقطع.
لكن، رغم قسوة المضمون/الفكرة، إلا جمالية الصورة بين "ما رجع الصدى صوتا/وقد رجع الصدى صمتا، أكدت حالة العجز/الألم الذي يمر به الشاعر وشعبه من جهة، وخففت على المتلقي شيئا من تلك القسوة من جهة أخرى، فقد أضاع الصدى الصوت، وأرجعه/حوله صمتا، وهنا ذروة البلاغة في إيصال عجز الصوت/الوجع.
واللافت في هذا المقطع أن الشاعر ينقض بيت الشعر:
"لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي" فالشاعر لا يلغي المستمع/المنادى، بل يلغي الصوت/الصدى نفسه، بعد أن امسى الكلام/الصوت (صمتا) وهذا ما يجعل صورة الشاعر تمثل حالة (تجديد للعجز العربي) الذي أمسى بلا بصوت، وبهذا يكون عجزه أكبر مما كان في حالة المناداة.
وبعد وصول الشاعر إلى حالة القنوط، ولم تعد الاستعانة بالله (تفيد) يلتجأ إلى وسيلة أخرى:
"أني شربت الخمر
لعلني انسى
وأحيا، لو قليلا، سكرتي
فالخمر يحجب صورة الموتى"
تأخير الحديث عن تناوله الخمر، وبعد اللجوء إلى الله، يرجع إلى العقل الباطن للشاعر، وكأنه يريد أن (يعطي تبريرا) لهذا الشرب، فهو ـ رغم ما به من الم ووجع ـ إلا أنه يراعي مشاعر امرأته، مشاعر القراء/المتلقين، أليس هو من يُحدثنا عن ألمه، فنحن الأقرب له وعليه، وهذا ما نجده في قوله:
"أني شربت الكأس يا امرأتي
لنخبك
وسكرت كي لا تحرجي
من دمعتي"
رغم أن المقطع يبدو فيه خصوصية "امرأتي" إلا أن الشاعر أرد به إيصال ما به من وجع لنا نحن المتلقي، فنحن أبناء شعبه، وما وجود "امرأتي" إلا من باب الاستعانة بها لتمده بالقوة/الطاقة ليكتب القصيدة ويكملها، لكن المقصود بالمعني، بالقصيدة هم نحن القراء، المتلقين للقصيدة، من هنا جعل خاتمتها تأتي على لسان "امرأته":
"قالت، وقد حبست
جفون العين دمعتها،
لا تعتذر إلا لشعبك!"
وكأن بغياب صوت/كلمات الشاعر، أوصل لنا عدم قدرته على الكلام، فجعل (امرأته) تكمل ما أراد قوله، وما فيه ألم، ويحمله من وجع.
والجميل في خاتمة القصيدة التناص مع قصيدة "جاءت معذبتي" لصاحبها لسان الدين بن الخطيب:
"فجاوبتني ودمع العين يسبقها من يركب البحر لا يخشى من الغرق"
وكأن الشاعر يعي (قسوة) القصيدة ووقعها المؤلم على القارئ، فأراد أن يخفف من وطأة القسوة والشدة من خلال جعل خاتمة القصيدة تأخذ القارئ إلى عالم الحب والجمال.
أليست هذه المشاعر المرهفة تؤكد نبل الشاعر وانتمائه لشعبه؟، فقد كان حريصا على عدم جرح (مشاعرنا) رغم ما يحمله من الم، لهذا أنتقى صورة شعرية تخفف عنا ذلك الألم، وما استعانته بامرأته للتحدث نيابة عنه، إلا من باب الإرهاق الذي هو فيه.
كل هذا يجعلنا نقول: إننا أمام شاعر نبيل، يحسن تقديم القصيدة، حتى لو كان موجوعا/متألما/مقهورا.

التعليقات

إرسال تعليق



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016