-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

أقطارُ الليل / الشاعر عبد الرحمن الطويل

 

يا الله كم هو عبقري هذا التعبير! فهذا الليل فسيح منتفخ بالبلاد والمهامه والمتاهات والواحات والضِياع والضَياع.

إنه أشبَهُ الزمان بالمكان، تُحس انحصارك فيه، واستدارته حولك، وتنظر فيه فلا ترى آخره.

تمشي فيه طُولَ ما تمشي وبُعد ما تمشي فلا تخرج منه، حتى يخرج هو من الدنيا.

وأصعب ما في هذا الليل المتورم بالمكانية أن لكل إنسان فيه بلدًا تبعد عن بلاد الآخرين، يقطعها وحده، ويزرعها وحده، ويطلع عليه النهار قبل أن تؤتي أكلها.

بلد يُحيط بها بحر الليل من كل جانب، وتبعد عنها سفن النجوم ملايين من سِني الضياء، فلا هو يركب منها إلى سواها، ولا أحد يحطُّ بها فيؤنس وحشته ويُزوده زاده.

إذا استلقى الرجل إلى جانب امرأته على الفراش فنام وبقيت فقد تركها لوحوش الجزيرة المهجورة وركب، وإذا نامت وبقي فقد ركبَت وخلّته عاريًا في برد روحه، وعلى الساهر من أفكاره وهواجسه ألف حجاب وعقبة تحول بينه وبين الشط الذي لا تأتيه السفن.

يعرف الطفل هذا الضياع بفطرته حين تنام أمه قبله، فيهُزها ويُزعجها لتعود من غربتها فتستنقذه من غُربته، الكبار فسدت فِطَرُهُم فصاروا أكثر الليل لا يوقظون أحدًا.

هل جربت أن توقظ نائمًا حتى لا تبقى وحدك؟ قد شعرتَ بمكانية الليل، قد ألفيتَ نفسك في صحراء فسيحة مظلمة لا تبتسم لها نجمة، فأنت تنادي هذا المسافر في نومه ليعود إليك ويؤنس وحدتك.

يعرف الساهر كم هذا الليل شاسع، يعرف أن طرقه طويلة متعرجة بلا علامات، سيرُها عَدْو.

يعرف أنه يبحث عن الظل ولا شمس، لأن لفح الشمس أرفق من لفح الظلمة حين تُحدق بقلبٍ فرد.

يعرف أن النائمين هربوا من هذا الليل إلى نومهم كما تهرب الزواحف من الصيف والشتاء إلى بياتها، لكنه إنسان لا يبيت في المواسم.

يعرف أنّ الله قال إن الليل يغشى، والنهار يتجلى، فهو مَغشيٌّ حتى يُصبح.

يعرف أن اللغة تفهم كل هذا، لذا رسمت الياء اللينة بين اللامين كأننا نسقط فيها فلا نرقى إلى اللام التي وراءها إلا بعد ذهاب الجهد والإخلاد إلى اليأس، وحطّت اللسان فيها ليهبط بنا إلى قعره كلما نطقنا اسمه.

الليييييييييل.. مُدّها كما شئت، أربع حركات، ستًا، عشرًا، كلها صحيحة متواترة أسندَها البَشَر عن البشر حتى روَتها الصبية في مهادها.

"يا حبيبي أقبل الليلُ وناداني حنيني"

نادِه معي، حبيبَك أقصد.. نادِه من بلده التي ذهب إليها ولا يُبلغها مشي ولا ركوب.

"وسرَت ذكراك طيفًا هام في بحر ظنوني"

ها هم سكان الجزيرة أتوك فاستقبلهم.

بل هم الذين استقبلوك، فأنت في بلدهم.

واسعَ ليلك إلى آخره وحدك، وأسعى وحدي، ويسعى فلان وحده، ويسعى الرجل وحده وامرأته إلى جنبه لا تدري به، وتسعى المرأة وحدها وامرؤها إلى جنبها غارق في نومه.

"إنّ سعيَنا لشتّى"

 


إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016