-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

صفحة من رواية ( الخريف واغتيال أحلام )/ للروائي إبراهيم الفقيه

 

 وسط تساقط القذائف كنت ورفاق السلاح مقيدين خلف المتاريس، ننتظر قدومهم بفارغ الصبر.. انطلق صوت جهوري خلفي يغني.. أنا صامد، أنا صامد.. فرد عليه أحد المقاتلين، ها نحن كالجبال صامدون.. ردد المقاتلون معاً.. وإن قتلوا أولادي أنا صامد.. أوقف أحدهم النشيد وقال : والله لقد استشهد الاثنان معاً.. وتابعوا النشيد بصوت واحد.. وحين وصلوا عبارة: وأن هدموا بيتي أنا صامد.. زغردت عجوز خلفنا، وقالت امرأة تحتضن وليدها: لم يبق لنا منه إلا ذكريات..

كان يقيناً أن المدافعين لن يركعوا، ولن يدخل الغزاة المخيمات إلا على جثثهم.. روحي بدت مقيدة في ثقب رصاصة، وجسدي مسجون داخل اسطوانة بندقية.. كان المقاتلون كالمردة الذين خرجوا من قماقمهم للتو.. بدأوا يعدون ذرات التراب التي سُرقت منهم ويحاولون استعادتها بجثثهم.. بأرواحهم.. بدمائهم التي كانت تروي الأرض، وتمتد كالشرايين إلى الحقول العطشى في الوطن.

القذائف تتساقط والانفجارات تتوالى، والغزاة يتقدمون.. سقط أحد المخيمات.. ذبحوا كل من فيه، سيطر القناصون على أطراف مخيم آخر.. وبدا القلب النابض في نزاعه الأخير.. القبور تتناثر، والقطط والكلاب تعيش على فتات الجثث المتفحمة.

لقد تعب الجميع من الزحف على شفرات وسكاكين القناصين والقتلة، وباتوا يركضون على حد الشظايا والمناشير.. ألسنة الحرائق ارتفعت وعانقت السماء، والمخيم بدا كومة من الفحم الأسود.

اللعنة على الحرب.. فيها استبدل المحاصرون حليب الأطفال بزجاجات مملوءة بالدم، وأشبعوهم من الموت والدمار.. لحظات الموت حزينة وصامته.. في الحرب ينسى الإنسان خوفه.. ينسى كل شيء.. يفكر فقط كيف يحمي رأسه.. كنت أتقدم وأتراجع، أهذي، أطلق الرصاص، أقاتل، ألم الأشلاء، أموت، أتعفن، أصرخ، اللعنة على الحرب، اللعنة على اليهود، اللعنة على العالم، اللعنة.. اللعنة..

كانت الأوامر للجيوش الغازية بأن تستمر في القتال.. "استمروا في تصفية الحساب.. اقتحموا المخيمات.. اقتحموا القرى والمدن، دمروها على من فيها.. اضربوا كيفما تشاءون.. أحرقوا.. دمروا كل ما تطاله أيديكم.. لا تتركوا لهم أثراً .. وإذا لم يبق شيئاً، فتغوطوا على جثثهم، ليشهد تاريخكم بوجودكم هناك"..

القذائف تتوالى وتتساقط، ورشقات الرشاشات تقترب وتتباعد لا أعرف من أين تأتي، ولا أي روح تزهق.. المواطنون يتراكضون، يتساقطون، يئنون، يتعفنون، يروحون، يجيئون، يبحثون عن قتلاهم، ثم يموتون..

كان تساقط القذائف اشد من زخات البرَد في شهر كانون.. والغزاة يتدفقون جماعات.. تغص جعبهم بالقذائف، وجيوبهم معبأة بالحقد والسجائر والمأكولات الشهية، والبقية يموتون جوعاً..

لا أحد يعرف أحد.. واحد فقط عرفته من بين جميع من دخلوا منظاري.. فجأة ظهر فارس بين الغزاة أمام بندقيتي.. كان يركض مثل كلب يلحق عظمة.. الخيانة تلاحقه كظله.. دارت الدنيا في عيني.. تراءت لي أحلام في الأفق ودخلت منظاري المكبر أيضاً.. كادت تنفذ إلى حدقتي عيني.. أزير طائرة يمخر في عباب السماء.. الطلقات تلاحقها.. الانفجارات تهز المنطقة، الطائرة تلقي حممها ثم تتوارى وتبتعد.. سحب الدخان تتلبد في الجو، وتملأه غيوماً سوداء.

أحلام ما زالت تركض في عيني.. تضيع في مؤخرة راسي.. تلاحقني كالموت الأسود، كاللعنة.. فجأة ضغطتُ على الزناد.. شعرتُ أن قذيفة حملتني إلى عنان السماء.. كصخرة أرتطم فارس بالأرض.. سقط ولم يتحرك.. خيل لي أني شاهدتُ جثثاً أخرى تتمزق وتتطاير أشلاؤها.. الدماء ملأت عروقي، ملأت الأرض، أحسستُ بانتصاري على الموت.. لم يعد الموت يخيفني، لم يعد فارس يرعبني بكوابيسه.. صرخت، دارت الدنيا في عيني، شعرتُ بنشاط وبقوة لإطلاق النار من جديد، الغزاة يتقدمون، يملأون منظار بندقيتي من جديد، اللعنة عليهم، أنا لست بحاجة إلى منظار بعد هذه اللحظة، لا أريد أن أحتمي خلف منظار قناص، أحب أن أجابههم بوجهي، بجثتي، بروحي.. اللعنة عليهم، إنهم يستحقون الموت.. الرصاص ينطلق، الموت ينطلق، الموت قبل الاستسلام، لن نركع، ولن نذل بعد الآن.

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016