إضاءة على كتاب
"مملكة الحيوان" للكاتب "سعد العريبي. ليبيا.
بقلم محمد فتحي المقداد
عالَم الكتاب بطبيعته مُنفتِح على الكونْ أجمع؛ فالكاتب أيقونة
مُتفرّدة في سماوات الأفكار والإبداع، ولا كتابة بلا قصديّة إصلاحيّة وتخريبيّة،
بل هي رسائل مباشرة ومُشفّرة، وبتساؤل بسيط ومشروع: لماذا يلجأ كثير الكثير من
الكُتّاب للترميز والأسطرة بإسقاطاتها ومحاولة مزاوجتها مع الواقع؟.
بطبيعة الحال فإنّ عوامل الخوف من الرّقابة والتهميش والبطش والسّجن
والسّحل، هذه المُحدّدات خلقت إشكاليَّة راسمة لملامح العلاقة بين المُثقّف والسّلطة،
التي تتحدّد وِفْق الظُّروف الاجتماعيّة والسياسيّة والتاريخيّة التي تتحقّق فيها،
ووفق منطق وماهيّة السّلطة القائمة يتحدد موقف المثقف منها؛ ليجد المثقّف نفسه في
موقف معقد، حيث يتعيّن عليه التفاعل مع سلطات متعدّدة الأوجه. هذه السّلطات قد
تكون سياسيّة، دينيّة، اجتماعية، أيديولوجيّة.
المثقف المعرفي مختلف بطبيعته التكوينيّة، على عكس المثقّف الأيديولوجيّ
الذي لا يقطع الحبال مع السّلطة،لاعتماده بأن الحركة الفكرية لا يمكن أن تتجسد
وتتحقق دون دعم ورعاية من سلطة ما. هذه السلطة قد تكون دولية، دينيّة، حزبيّة؛
لذلك من الطبيعيّ أن يجد المثقّف نفسه في موقف برضاه أو بالإكراه يتطلّب التفاهم
والتفاعل مع هذه السّلطات، ويُعتَبر التناغم بين المثقّف والسّلطة أمرًا معقدًا.
قد يكون هناك توافق أحيانًا، وتصادم في أوقات أخرى. يعتمد ذلك على الظّروف والتحدّيات
التي يواجهها كلّ من المثقف والسّلطة في مجتمع معيّنُ.
نخلص إلى فكرة هروب الكاتب من قيود الخوف والتخويف والترهيب، والالتفاف على منظومات الرّقابة المتشدّدة وغير المُتسامحة مع الأفكار المخالفة لنهج السلطات
الأمر الذي تكرّر مع الكتاب الذي بين أيدينا "مملكة الحيوان"
لمّؤلّفه اللّيبيّ "سعيد العريبي"، وقال في هذا الصّدد: (هذا
الكتاب منع من النشر أيام النظام السّابق، بموجب تقرير رابطة الأدباء والكتاب اللّيبيين
بشأن منعه من النشر).
وفي العودة للمفكر والباحث" "إدوارد سعيد"،
فقد كان يرى أن المثقّف شخص نخبويّ، ذو رسالة، ولا مُنتمٍ، ولا يكتسب رزقه من
المعرفة، وناقد للوضع الحاليّ، بُغية إصلاحه، أو كما يصفه: (منفي، هامشي، هاو،
ومؤلف لغة تحاول أن تقول الحقيقة للسّلطة). وما ينطبق على الكاتب والأديب
"سعيد العريبي" وكتابه "مملكة الحيوان"، وتشاكُلات
هذا العنوان بتقاربات مع عناوين كتب وروايات بمثل هذا العنوان، مثل "المملكة
الحيوانية. تأليف بيتر هولاند"، ورواية "مزرعة الحيوان. جورج
أورويل". ولتجلية المفهوم الذي نعالجه، نعود لمقولة "إدوارد سعيد":
«إن لكلِّ مُثقفٍ أو مُفكر جمهورًا وقاعدة؛ أيْ جمهورًا مُعينًا يَسمعه،
والقضية هي: هل عليه أن يُرضي ذلك الجمهور، باعتباره زبونًا عليه أن يُسعِده، أم
أن عليه أن يتحدَّاه؛ ومن ثَم يُحفِّزه إلى المعارضة الفورية أو إلى تعبئة صفوفه
للقيام بدرجةٍ أكبر من المشاركة الديمقراطية في المجتمع؟ أيًّا كانت الإجابة على
هذا السؤال، فإنه لا بد من مُواجَهة السلطان أو السلطة، ولا مَناصَ من مناقشة
علاقة المُثقف بهما. كيف يُخاطب المُثقف السلطة: هل يُخاطبها باعتباره محترفًا
ضارعًا إليها، أم باعتباره ضميرَها الهاوي الذي لا يَتلقى مكافأةً عما يفعل؟».
وبطريقة مُواربة في توطئة كتابه يقول العريبي: «من سابع المستحيلات في أيامنا
هذه أن يعترض طريقك ذئب حقيقي.. ويسلم عليك.. ويخاطبك بلغته الذئبية التي لا
تفهمها». ولم يبتعد كثيرا بتشبيهه السّلطة بالذّئب، ولغتها بالذئبيّة.
"فما أكثر الذئاب البشرية من حولنا.. وما أكثر الثعالب
والكلاب والحمير".
ومن خلال مطالعتي لمواد الكتاب ذات الطابع القصصي التي جاءت جميعها
على ألسنة الحيوانات فقد حصلت لي متعة القراءة كما حصلت للدكتور "أحمد
عمران بن سليم"، حسبما ورد في مقدمة الطبعة الرابعة، وبتساؤل مشروع تولّد
أثناء القراءة، حول الكتابة باللهجة الدارجة، وهو نفس القلق الذي اكتنفني، أيضًا
ورد في المقدمة: "فما الداعي إذا لأن يلجأ الكاتب إلى إجراء الحوار
بالدارجة في نص يحمل بعداً رمزياً يتطلب نوعاً خاصا من المتلقين..؟!".
كنت أتمنّى أن تكون الكتابة بالفصحى، وستبقى "الفصحى هي الحل" بكلّ
الموازين.
ويتماثل كتاب "مملكة الحيوان. لسعيد العريبي" مع
كتاب قصص "كليلة ودمنة" الذي ترجمه للعربية "ابن المقفع"،
فقد كتبه الحكيم الهندي "بَيْدَبا" لملك الهند "دَبْشليم"، وجاءت
قصصه على ألسنة الحيوانات والطّيور كشخصيّات رئيسة فيه، وهي ترميز وتأشير إلى شخصيّات
بشريّة، وتناقش العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالإضافة إلى عدد من الحِكم
والمواعظ.
أما كتاب "الحيوان. للجاحظ" فقد تناول فيه تأثير
البيئة في الحيوان والإنسان والشجر، وتناول الطب وأمراض الحيوان والإنسان، إضافة
إلى عدد من المفردات الطبية النباتية والحيوانية والمعدنية، وأبيات مختارة من
الشعر العربي النادر، والأمثال السّائرة والنوادر الطريفة.
بينما كتاب "حياة
الحيوان الكبرى" هو أشهر مؤلفات كمال الدين الدميري. بمفهومنا دراسة تطبيقية
لعالم الحيوان وأنواعه وسلوكه وأسماءه، وطبيعته التكوينية. وبتتبع هذا المنحى
نتوقف مع "المملكة الحيوانية" الكاتب بيتر هولاند. الذي يتماهى مع كتاب
الدميري تقريبًا في دراسة الحيوانات وتوصيفها. يبدؤها بتعريف الحيوان، ثم يستعرض
مستويات التصنيف العليا للحيوانات (الشُّعَب) والرؤى الجديدة بشأن علاقاتها
التطوُّرية بِناءً على البيانات الجزيئية، إضافةً إلى إلقاء نظرةٍ على الطبيعة
البيولوجية لكلِّ مجموعةٍ من الحيوانات.
و بالعودة إلى ميدان الأدب لا بدّ من التعريج على رواية "مزرعة
الحيوان" فهي رواية "دِيستوبيّة"
من تأليف "جورج أورويل" وهي إسقاط على الأحداث التي سبقت عهد
ستالين، وناقدة له ومتشككة في سياساته، بممارسة
إرهاب الدولة والقمع السياسي في عهده.
وقبل سنتين صدرت رواية "العرافة ذات
المنقار الأسود" للروائي اللبناني "محمد
إقبال حرب"، وهي رواية أيضًا "دِيستوبيّة" أخذت مجتمعات
الدّجاج، لتصنع إسقاطات لامست "التابوهات" المسكوت
عنه، وسلطت الضوء على منظومات الفساد والتسلط.
من خلال ما تقدّم نخلص إلى فكرة هروب الكاتب من قيود الخوف والتخويف
والترهيب، والالتفاف على منظومات الرّقابة المتشدّدة وغير المُتسامحة مع الأفكار
المخالفة لنهج السلطات، التي لا تعترف بالآخر، بل تعتمد فرض رؤيتها ونهجها بالقوة.
وفي هذا المنحى نجح "سعيد العريبي" يكتابة المُوازية والالتفاف
بترميزات تحتاج لتأويلات.
إرسال تعليق