(الجرة) مجموعة قصصية للقاص الدكتور محمد حسين السماعنة، صدرت عن وزارة
الثقافة عام 2022م ، وهي تحتوي خمسا وأربعين قصة قصيرة وقصيرة جدا. وهي مجموعة
فريدة بكل ما في الكلمة من معنى، فهي فريدة من حيث اللغة الشفافة المعبرة، ومن حيث
أسلوب السرد، فترى السارد أحيانا واحدا من
شخوص القصة، وأحينا بطلها، وهي فريدة في قدرتها على تكثيف اللحظة وجعلها في خدمة
الواقع. ومن أجمل ما بها من فرادة شخصية نجمها الأول وهو محمد ابن أبي جمال الذي يلمح
القارئ وجوده في كل قصة من القصص، فتجده أحيانا غاضبا وأحيانا متمردا وأحيانا
ساخرا وأحيانا منكسرا مغلوبا على أمره، ولكنه في كل أحواله موجود بل وله موقفه
الخاص إزاء ما يدور حوله من أحداث.
ففي قصة (النومة الشهرية) نراه لا يمتثل لأمر المختار بالسبات كما يفعل أهل
القرية بل ينام نوما طبيعيا في الليل ويصحو في النهار، مما يجعل المختار يفقد
صوابه ويقسو حتى على القطروز الذي نقل إليه الخبر. ويحكم على محمد ابن أبي جمال
بالنوم مربوطا على العمود، ورغم ذلك نرى القطروز قادما إلى المختار مرة ثانية
محذرا إياه من مصيبة جديدة.
إن القصص القصيرة جدا لدى القاص الدكتور محمد السماعنة لا تخرج عن النمط العام لقصصه، فهي مشاهد مستلة من الواقع لتعرض بلغة مكثفة شفافة تصل بالقارئ إلى المعنى العميق
وفي قصة نبضات قلب يتم تجنيد التكنولوجيا لمعرفة عواطف الناس واتجاهاتها
وأونها ويختلف الناس بين مرحب بجهاز كشف العواطف ورافض له، كل حسب موقعه ورغبته في
معرفة عواطف الآخر تجاهه. أما محمد ابن أبي جمال فلا يجد بدا من الموافقة على
الفحص كونه متطلبا إجباريا من متطلبات الوظيفة. وعلى الرغم من إلزامية التعرض له
إلا أن الناس لا يقبلون على التعرض له.
أما في قصة الجرة – التي سميت المجموعة باسمها- فنرى كل أهل القرية منشغلين
بالتحقيق في كسر الجرة التي كانت تحملها الصبية حمدة السالم، وفي توجيه اللوم
للشابة الجميلة حمدة. وعلى الرغم من أن
الأمر كله لا يستحق اهتمامهم الكبير إلا أنهم مستمرون في ما هم عليه، لذلك نجد
المختار يوافق على اقتراح الداية بتشكيل لجنة استقصائية تفتيشية بحثية ويقول ( الليلة سنشكل اللجنة).
وتستمر القصص كلها بالكشف عن عيوب المجتمع بلغة مكثفة تختزل الهم الكبير في مشهد مكتنز بالمعاني كما هو في القصص القصيرة
جدا، أو باستخدام السرد المكثف أحيانا والمفصل أحيانا أخرى، كما هو في قصة الجرة
مثلا.
وفي قصة (الأول للأول) يبدأ محمد ابن أبي جمال بالتنازل عن حقوقه ثم يزداد
تنازله إلى أن ينهي به الأمر بالخروج من الحافلة.
ومما يزيد القصص جمالا أنها تُشرك القارئ في وضع نهاية كل قصة، فهي لا تصادر قدرته
على رصد الأحداث ومتابعتها باستخدام تلك النهايات المفتوحة التي توحي باستمرار
الحال على ما هو عليه، لكن إلى متى؟ وإلى أين؟ هذا ما يقرره القارئ بحدسه وذائقته
ومعرفته.
دون أن تتوقف القصص عن كشف السلبية المتفشية في المجتمع وخير دليل على ذلك قصة خطة
اللولحة وقصة الصياد.
وتشترك القصص القصيرة جدا في عملية الكشف والإشارة الفنية اللطيفة لما يمكن تسميته
بيت الداء أو أسّ الخراب. فقصة (طاسة الرعبة) التي فقدتها القرية وجدوها في
ممتلكات القطروز الذي وضع بها التمر كناية عن عدم إدراكه لأهميتها, على الرغم من
استيلائه عليها.
إن القصص القصيرة جدا لدى القاص الدكتور محمد السماعنة لا تخرج عن النمط
العام لقصصه، فهي مشاهد مستلة من الواقع لتعرض بلغة مكثفة شفافة تصل بالقارئ إلى
المعنى العميق الذي ترمي إليه على الرغم من قصرها الظاهر، فنرى في قصة (اقرع
الجرس) حالة من الإحباط والشعور باللاجدوى، فالممر هارب من غرفة العمليات ولكنه
معتم طويل وخاشع، ولافتة تلوح وتقول له "اقرع الجرس، نضئ لك الممر" وبعد
رحلة البحث عن الجرس تصطدم عيناه بلافتة أخرى تقول له " إذا أردت قرع الجرس،
أضئ الممر.
ومثلها قصة (نصيحة) التي تمتاز بتكثيفها الشديد، وجملها الرشيقة، ومعناها الإنساني والاجتماعي
العميق، إذ تقول القصة:
قلت لها: هذا النوم يعاندني ويجافيني؟
فقالت بثقة وثبات ورقة: أفرغ وسادتك من الأحلام وستنام!
إن استخدام اسم الإشارة (هذا) يعني أن النوم قريب ولكنه يعاند ويهجر طالبه،
وقد جاء الجواب المؤكد ( بثقة وثبات ورقة) مشترطا التخلص من الأحلام. ولعل القصة
تريد أن تقول أن القادرين على النوم هم ذوو الوسائد الخالية من الأحلام.
وهذا التكثيف الجميل ينطبق على بقية القصص ولا سيما القصص القصيرة جدا مثل
قصة (حب) و ( غرفة واحدة) و (مرايا) و(وسادة).
إن مجموعة ( الجرة) مجموعة مليئة بالدهشة وتستخدم أساليب القص التي تدفع القارئ
إلى مشاركة الكاتب في الاندماج مع أبطال القصص وشخوصها، فتارة يكون محمد ابن أبي
جمال هو المتكلم، وتارة يُستخدم أسلوب الفلاش باك، أو العودة للماضي ثم العودة
ثانية إلى الحاضر لإغناء النص وإشباع أبعاد الشخوص والأحداث. وتارة يُفصل القاص
التفاصيل وتارة أخرى يقدمها لنا كجرعة من رحيق مصفى.
فالتحية والتقدير للقاص الدكتور السماعنة مع أطيب الأمنيات باستمرار العطاء
والإبداع.
إرسال تعليق