(ما يشبه القصة القصيرة)
ظنّتْ نفسَها
نائمةْ، حدث هذا في الحربِ الأخيرةِ على مدينتِها الصغيرةْ والوادِعةْ في حضنِ
البحرِ، لم يختلِفْ مشهدُ الغرفةِ، طاولتها القديمة التي ورثَتْها عن أختِها التي
تزوّجتْ، المرآة الملصقة بالأسمنت على الحائط، وحقيبتِها الملقاةِ بإهمالٍ جوار
خزانةِ الملابس ذات البابِ الواحِدْ.
أيامٌ طويلةٌ
والنومُ لا يريدُ أن يذهبْ، والليلُ لا ينطفئ، حاولتْ أن تحرِّكَ ذراعَها الذي
أصابهُ الخَدَرْ، لم يستجبْ لها جسدها، حاولتْ أن تقلبَ جسدَها لأن الاستمرارَ على
وضعيةٍ واحِدة أتعبَها، لكنها لم تستطع ذلكَ أيضاً، لم تكن تشعر بالاختناق، لكنها
لاحظتْ أن صدرها لم يعد يعلو ويهبط، ولا هواءَ يدخلُ أنفها، وهي التي اعتادت أن
تراقب كل حركةٍ من جسدِها وكل زاويةٍ فيه، فمنذ بلغت الثامنة قبل أربع سنوات، وهي
تراقبُ كل بثرةٍ تنبتُ هنا أو هناك، وكل تغيّرِ لونٍ في أي مكانٍ من جلدِها.
كم مرة عليّ أن أخبرهم أنني لا أحبُّ المقابر ولا الجنازات؟ المرةُ الوحيدة التي دخلتُ فيها مقبرةً كانت لأنَّ وردةً صفراء أعجبتني
لم تسمعِ الصوتَ
الهائلْ، لم ينشطرْ جسدُها ولم تنزفْ من أي مكان، ولم تشعر بالألمِ أيضاً، كانت
تتملّكُها أمنيةٌ واحِدة، أن تنتهي هذه الحرب قبلَ العاشر من الشهر القادمْ، لأنها
إن استمرّتْ لما بعدَه فهذا يعني أنها ستفقد الهدايا التي وعدتْها بها صديقاتها،
فعيد الميلاد يأتي مرةً واحدةْ في العام، وهي لا تملكُ الصبرَ لتنتظرْ عاماً آخرْ،
فهي بحاجة إلى دفتر المذكرات الذي وعدتها به أمها، وبحاجة إلى حقيبة جديدة كما وعد
والدها، هي في الحقيقة بحاجة إلى كل الهدايا التي يمكن تلقيها، وكان هذا ربما
دافعها الوحيد كي تتمنى انتهاء هذا الجحيم.
عندما تنتهي هذه
الطائرات من عملِها، سوف تحكي لصديقاتِها عن كل ما حدث، فهي تسجّلُ كلَّ شيء يوماً
بيوم، وستخبرُهُم بالتحديد عن الحالة التي تشعر بها الآن، من خمول وعدم إحساسٍ
بالجسدْ، وستضحك كثيراً معهن، ومن المؤكّدْ أن صديقتَها سماح الجبانة ستحاول الادعاء
أنها لم تَخَفْ، مع أنها متأكدةْ أنها قد تكونْ بللت فراشها أكثر من مرة في لحظات
القصفْ، هي لن تفعل ذلك، ستكونُ طبيعيةً وتخبرهنّ عن خوفِها، وعن هروبِها إلى سلّم
البناية كلما سمعَتْ صوتاً كأنّهُ الرّعدْ، كانت تحبُّ الرعدَ لأنّهُ رسولُ
المطرْ، لكنها تكره الأصوات التي تشبهه لأنها رسولة موت.
أبوها أخبرَها
مرةً أن الصوتَ الذي تسمعُهُ يعني أنها لن تموت، لأن الانفجار الذي يقتلكِ يا
ابنتي، لن تسمعيه، شدةُ الانفجارِ وقوّته تحدثُ أسرعَ بكثير من الصوتْ، لذا فقد
صارَ الصوتُ يطمئنُها قليلاً، ومع ذلك ظلّ الرعبُ يتملّكُها بعدَ كلِّ غارة.
بعدَ أيامٍ لم
تعدّها، لأنها فقدت قدرة العد، دخلَ كثيرونَ إلى غرفتِها، أحستْ بالخجلْ لأنها لا
تحبُّ أن يراها أحدٌ بملابسِ النومِ، أو بشعرها غير المسرّحْ، حاولتْ أن تصرخَ
فيهم مؤنّبةً إياهُمْ على قلّةِ ذوقِهِمْ، لكنَّ صوتَها لم يخرجْ، كانت صديقاتها
جميعهنّ هناك، أمُّها، أبوها، ومعلمةُ المدرسةِ أيضاً، صديقاتُها حملنَ الهدايا
وسط دموعٍ كثيفةٍ وآهاتٍ عظيمةْ، أبوها لم يحتملْ فخرجَ من الغرفةِ كي يخبئ
دموعَهُ عنها كما اعتادَ أن يفعل دائماً.
تساءلتْ، لماذا
يبكون؟ ربّما قُتِلَتْ إحدى صديقاتي في الحرب، ولكن صديقاتي كلهن هنا، وإذا قتِلتْ
إحداهن في الحرب، فلماذا يتجمّعونَ في غرفتي أنا، لماذا لا يتكلمون؟ ربما جاؤوا
ليأخذوني لأذهبَ معهم، كم مرة عليّ أن أخبرهم أنني لا أحبُّ المقابر ولا الجنازات؟
المرةُ الوحيدة التي دخلتُ فيها مقبرةً كانت لأنَّ وردةً صفراء أعجبتني فقفزتُ من
فوق السورِ لأقطِفَها، فوجود مقبرةٍ بكلّ هذه الورود داخلها على طريق المدرسة ـ
البيت، شيء مستفزٌّ فعلاً.
لكني لم أفهم
بعد، لماذا سمح لهم أبي بدخول غرفتي دونَ أن يوقظني؟ عندما يذهبنَ، سوفَ أتكلّمُ
معهُ وأخبرهُ بأنني صرتُ كبيرةً الآن، ويجب أن يستأذنَ من يريدُ أن يدخلَ غرفتي،
لأنني لم أعدْ تلك الطفلة التي لا تهتمُّ بالتفاصيل الصغيرة.
إرسال تعليق