محمد عبيدالله - ناقد وأكاديمي أردني
«تحت سماء رمادية» هو الكتاب الجديد الذي نشره
الناقد والمترجم الفلسطيني/الأردني فخري صالح مؤخرًا، وفي العنوان الفرعي:
«المنفى، الاستشراق، إنسان العصر العاري، ما بعد الحداثة، ومقالات أخرى». صدر
الكتاب عن (الدار الأهلية) في عمان (2024م)، في (413) صفحة من القطع المتوسط، ويضم
عددًا واسعًا من المقالات الثقافية والفكرية تجمع بينها وحدة عامة تتصل بمشاغل
عصرنا الراهن ثقافيًّا وفكريًّا وسياسيًّا. والعنوان الرئيس ذو طابع شعري مجازي،
يستند إلى عبارة درويشية دالة من قصيدة «حجر النرد»: «حين تبدو السماءُ رمادية/
وأرى وردة نَتَأَتْ فجأة/ من شقوق جدارْ/ لا أقول: السماء رمادية/ بل أطيل
التفرُّس في وردة/ وأقول لها: يا له من نهارْ!».
وهو عنوان لافت يشي بما يحمله
عالمنا من ضبابية واضطراب وغموض، وما يثيره ذلك من أصداء الصراع والتفتت المحيط
بنا وبعالمنا من كل جهة؛ ذلك أن هاجس فخري صالح ليس وصف ما يحدث في العالم الواسع
فحسب، وإنما التساؤل عن موقعنا منه وتأثيره فينا، فليست هذه المشاغل المهمة التي
يكتب عنها ويسائلها إلا نماذج يرتكز فيها صراع العرب والغرب، ويصطرع فيها الطموح
بالهيمنة والسيطرة وأشكال الاستعمار الجديد.
تتوزع مقالات الكتاب، وفق ما
يقول المؤلف في مقدمته: «على سياقات معرفية، وانشغالات فكرية وثقافية متعددة، تتصل
بالمتغيرات المتسارعة التي تضرب عالمنا المعاصر، وبانفجار الصراعات والحروب
والنزاعات التي ترتكز على صراعات الهوية، كما على التقاتل على مناطق النفوذ
السياسي والاقتصادي في عالم يشهد بروز أقطاب سياسية واقتصادية وإمبرياليات جديدة
وقديمة». ومصداقًا لهذه الاهتمامات جاءت مقالات الكتاب لتغطي طيفًا واسعًا من
العناوين البارزة في الثقافة العالمية والعربية المعاصرة، وتضع القارئ في قلب تلك
التحولات.
عن
المنفى وآدابه
المقال الأول بحث طويل نسبيًّا
في موضوع المنفى والآداب المرتبطة به، نتيجة «لغزارة عمليات الانتقال والهجرة
والنزوح والارتحال الطوعي أو القسري إلى أصقاع الأرض المختلفة». يتناول المقال
صورًا من تعريفات المنفى وتجلياته لدى محمود درويش، وإدوارد سعيد، وجان محمد،
وآخرين من مثقفي مرحلة ما بعد الكولونيالية؛ ذلك أن المنفى تجربة مؤثرة في الماضي
والحاضر، فهو يرتبط بالتجربة، أي تجربة النفي والانزياح أو الإبعاد عن «الوطن»
أساسًا، ولكنه يتوسع ليغدو مجازًا لحياتنا المعاصرة. وبعبارة المؤلف فإن «مفهوم
أدب المنفى قد خضع لتحولات وتعديلات عديدة، حيث غادر معناه اللغوي الذي يجعل منه
دالًّا على أدب الغربة والهجرة والاقتلاع والنفي والتشرد ليصبح تجربة مجازية تدل
على النظر بعيون جديدة إلى العالم وتجارب البشر وتفاعل الثقافات… وقد دخل بوابة
النظرية الأدبية ليصبح من المفاهيم الأساسية التي تشكل آداب ما بعد الاستعمار».
نقد
الاستشراق
تناول المؤلف ظاهرة (الاستشراق)،
منطلقًا من تأثير كتاب إدوارد سعيد الذي يعد حدًّا فاصلًا ومؤثرًا في تحليل هذه
الظاهرة، وفي وضعها في سياقها السياسي والاستعماري دون مواربة. وتتميز قراءات فخري
صالح ومطالعاته بمتابعة «الاستشراق الجديد» وتقديم خلاصات لمنطلقاته ونظرته
وعلاقته بالاستشراق التقليدي الذي تناوله سعيد في كتابه المعروف؛ ذلك أن
الاستشراق، كما يؤكد المؤلف، لم يتوقف ولم يتراجع عن أيديولوجيته وطريقته في تمثيل
الشرق، بل ما زال مُصِرًّا على شيطنته. لقد تلقى الاستشراق ضربة حاسمة كشفت أهدافه
بشكل صريح، ونقدته نقدًا مؤثرًا، مما تمثل في خلاصات كتاب «الاستشراق» لإدوارد
سعيد، انطلاقًا من تعريفه للاستشراق من خلال وظيفته: «الاستشراق باختصار هو
الأسلوب الغربي للسيطرة على الشرق، وامتلاك السيادة عليه». ومع أن هذه الضربة
الفكرية الحاسمة لم تكن كفيلة بإيقافه أو دفعه للتراجع، فإنها قد وفرت وعيًا
متجددًا بنقده ومواجهته، وتمكنت إلى حد كبير من تفكيك خطابه ونزع غطائه الفكري.
ما
بعد الحداثة
تناول
المؤلف «الأسس النظرية لما بعد الحداثة» وتناول «نقد ما بعد الحداثة وترجيعاتها
العربية» واجتهد في هاتين المقالتين للإحاطة بأهم مقولات ما بعد الحداثة وجذورها
وعلاماتها الأساسية، كما تبدت في مساهمات بارزة لإيهاب حسن، وإرفنغ هاو، وليونارد
ماير، وتشارلز جينكس، وغيرهم. كما تأمل المؤلف اللقاء الحيوي بين مقولات ما بعد
الحداثة ومشروع ما بعد البنيوية الفرنسية، فقد شكل تداخلهما ولقاؤهما مرحلة حاسمة في
اتساع التأثير وفي عولمة «ما بعد الحداثة»، خصوصًا عبر تأثير جان فرانسوا ليوتار
مؤلف «الوضع ما بعد الحداثي»، وهو يعد -بحسب المؤلف- «العمل الأساسي الذي رسخ
مفهوم ما بعد الحداثة، وأثار جدلًا متواصلًا حول التصورات النظرية لما بعد
الحداثة». وأبرز المؤلف تفكيك ليوتار لأسطورة «العلم» بصيغتها الحداثية، ونقده
وتفكيكه لما يسميه بالحكايات أو السرديات الكبرى، وقلة ثقته بالنظريات الكلية،
وغير ذلك مما غدا من عناوين ما بعد الحداثة ومبادئها الحاسمة.
وفي
مجال الآداب والفنون ظهرت تجليات ما بعد حداثية أشار المؤلف إلى أهم عناوينها
ومظاهرها، منها: الدعوة إلى «تذويب الفواصل بين الثقافة الرفيعة والثقافة
الجماهيرية»، ومنها، وفق إيهاب حسن، الميل إلى «اللاحتمية» وما تفضي إليه من
توجهات تشمل: الالتباس، الانقطاع، الخروج على المألوف، التعددية، العشوائية،
التهديم، وما يتفرع عنها من توجهات تسهم في تشظي الفكر والأدب والفن بدلًا من فكرة
التماسك والاكتمال ذات الطابع الحداثي. وأما الترجيعات العربية لما بعد الحداثة
فإن أبرز ملحوظة أثارها المؤلف تتصل بإنتاج أدب ما بعد حداثي لمجتمعات ما قبل
حداثية، بمعنى أن النخبة الثقافية قد سبقت مجتمعها، وهو ما أدى إلى ضرب من اتساع
الهوة بين الثقافة والمجتمع، وهو مأزق جدير بالتفكير والمناقشة.
هويات
أمين معلوف
توقف
المؤلف عند اهتمام الروائي الفرنسي -اللبناني الأصل- أمين معلوف بمسألة الهوية
والهويات، وقد لحظ أن معلوفًا لا يتناولها تناولًا معرفيًّا بحتًا، بل أقرب إلى
تناول تمتزج فيه «الأمثولة الشخصية» بالمسارات الفكرية والسياسية للهوية، إلى جانب
تجاربه ومواجهاته لأزمات الهوية من خلال شخصيات رواياته التاريخية التي اجتهد في
اختبار مسألة الهوية ومناقشتها من خلال أزماتها وتجاربها، ومنها على سبيل المثال
متحولة، «ليون الإفريقي» التي قدم فيها سردية يصعب التواصل معها خارج مفهوم الهوية
المتحولة، عبر تجربة حسن الوزان الذي تداخلت في تكوينه حياتان وهويتان مختلفتان.
ومع الإقرار بأهمية هذه الرواية وبما يمكن الاستدلال عليه من خلالها فإن تجربة
الوزان أو ليون الإفريقي تظل تجربة نادرة وفردية ولا يمكن تعميمها على الجماعات.
وكذلك هي تجربة معلوف نفسه، الذي اختير مؤخرًا أمينًا دائمًا للأكاديمية الفرنسية
في ديسمبر 2023م، فمثل هذه «الخروقات» الفردية للعبور بين الثقافات لا تشكل أية
مؤشرات لتكون قاعدة لانفتاح الثقافات والهويات وقابليتها للتغير والتقارب. فقانون
الهوية أكثر استجابة لمفهوم الصلابة من السيولة، بدليل استمرار النزاعات والصراعات
ومحاولات محو الهويات من قبل الغرب والقوى الاستعمارية المسيطرة نفسها. ومع ذلك
تظل تجربة معلوف في الأدب والفكر تجربة مهمة تثير قضايا مؤثرة في عالمنا المعاصر غربًا
وشرقًا.
إنسان
العصر العاري
كتاب
فخري صالح مهم وشديد الصلة بما نعيشه اليوم من أزمات وصراعات سياسية وثقافية. وقد
استعار المؤلف تسمية «الإنسان العاري» التي استعملها مارك دوغان وكريستوفر لابي في
عنوان كتابهما، تعبيرًا عن الدكتاتورية الرقمية، وطبيعة انكشاف الإنسان في هذا
العصر، وناقش فخري صالح تحت هذه التسمية موضوعات مهمة، مثل: نظام المراقبة
والتلصص، وانهيار منظومات القيم، والقنبلة المعلوماتية وغيرها من موضوعات تمثل
نوعًا من مواجهة مستجدات التقنيات الرقمية وتأثيرها في حياتنا وتعرية الإنسان وكشف
تفاصيل حياته وأسرارها على أوسع نطاق. وفي مجموعة أخرى من المقالات عرض تأثيرات
مرحلة (كورونا) وانتشار (كوفيد 19) الذي ترك آثارًا متعددة في الحياة الاجتماعية
والثقافية إلى جانب تأثيراته الصحية في السنين الأخيرة.
وفي
الحقل الفلسطيني الذي لم يغب عن الكتاب وعن طروحاته في مختلف المقالات، تناول
المؤلف تمثيل بعض المدن الفلسطينية في الأدب والثقافة مثل القدس (مدينة الله
والإنسان) كما تناول غزة بوصفها (مجازًا لمصير الفلسطينيين)، ولعل الهجمة
الاستعمارية الوحشية الأخيرة تؤكد ذلك المجاز وتحوله إلى حقيقة ملموسة، ولكن
الغريب أن «إنسان العصر العاري» لم يعد قادرًا على إحداث التغيير ولا على إيقاف
الدماء والقتل الوحشي، فليس متاحًا له أكثر من التعبير الهامشي غير المؤثر.
أخيرًا،
فإن كتاب «تحت سماء رمادية» لفخري صالح كتاب حيوي وجدير بالقراءة، فهو يقدم معارف
مهمة وعميقة بأسلوب يجمع بين الجمال والجاذبية والكثافة، ويشكل جسرًا مهمًّا بين
القارئ المعاصر والمعارف والتحولات الفكرية والثقافية المؤثرة في أيامنا. وإذا
اتفقنا على وجود مدرسة تنتسب لإدوار سعيد فإن فخري صالح أحد أبرز أعضائها، لشغفه
الطويل بإنتاج سعيد الفكري والنقدي وتفاعله الحقيقي مع ذلك الإنتاج، وهو ما تتبدى
آثاره في مقالات هذا الكتاب الشائق، ليس على مستوى الإحالة الكثيفة إلى آثار سعيد
فحسب، وإنما تبني كثير من طرقه في التحليل والتفكير والتنبه إلى موقع الثقافة
وكيفيات تفكيكها من خلال أدوات تربطها بمحيطها السياسي والفكري، فالجمالي ليس
منفصلًا بحال عن مؤثراته ومنابعه الفكرية والسياسية، وليست الظواهر الفنية في
حقيقة الأمر إلا تجليات لمؤثرات أشد غموضًا وتأثيرًا.
إرسال تعليق