رواية "حيواتٌ سَحيقةٌ " للأردني يحيى القيسي في طبعةٍ
جديدة:
مقاربة لتجسُّدات النَّفس البشرية في رحلتها الأرضية عبر العصور
عمّان – لندن –
عن منصة "ألف كتاب وكتاب" البريطانية للنشر، صدرت الطبعة
الثانية من رواية "حيوات سحيقة" للروائي والباحث الأردني يحيى القيسي،
وهي مِنصَّة جديدة لنشر الكُتبِ الرَّقميَّة العَربيّة، إضافة إلى الكُتب
الصَّوتيَّة، والورقيَّة حَسَب الطَّلب.
وهذه هي الرواية الخامسة للروائي القيسي، وقد صدرت في طبعتها
الأولى عن "دار خطوط وظلال" في عمَّان في العام 2020، وتندرجُ كما يقول
كاتبها ضِمْن مَشروعِه البَّحْثِي السَّرديّ المُنفتح على الرُوحانيَّات،
والماورائيات، والغريب، والعجيب في هذا الكون، حيث يطرح من خلالها سؤالاً في غاية
الأهميَّة عن إمكانية أن يكون الوجود الروحي للإنسان سابقٌ على وجوده الجسدي، أي
إمكانية أن تكون النَّفْس البَشرية قد تمَّت استضافتها في أجساد أخرى بشريَّة خلال
رحلتها على مدار الماضي السحيق، وأنّها الآن في تجسُّدٍ جديد مع تعطيل ذاكرتها
السابقة عبر كلّ ولادٍة جديدة، ولا علاقة لهذا الطرح بالطبع بالنسَّخ أو المسخ أو
الفَسخ الذي تعتقد به بعض الشعوب في الشرق الأقصى.
ويتابع القيسي توضيحه لمقاصده المعرفيَّة والسرديَّة في هذه
الرواية:
قمت بتوظيف فكرة إمكانية وجود النفس البشرية خلال العصور الماضية
فنيَّاً من خلال استحضار مأساة الحلَّاج إضافة إلى بعض الأحداث الأخرى عبر الأزمنة
السحيقة، كما أعدتُ إحياء رحلة المستكشف السويسري بيركهارت الذي اكتشف البتراء
للغرب عام 1812م، وطرحت العديد من القضايا المتعلقة أيضاً بجذور العنف والتطرّف
سواء في الفهم الخاطىء للفكر الإسلامي أو المسيحي الغربي عبر رحلة
"صالح" الدليل السياحي الذي كانت تُهيمن عليه حالات من الغيبة، والولوج
إلى أعماق النفس القصية واختلاط الواقع عنده بالخيال.
يذكر أن القيسي قد أصدر من قبل خمس روايات هي: باب الحيرة 2006،
أبناء السماء 2010، الفردوس المحرم 2015، بعد الحياة بخطوة 2018، حيوات سحيقة 2020
إضافة إلى ثلاث مجموعات قصصية، وكتابٍ بحثيّ مُخصَّص لمراجعة تجربة المُتصوف
الشهير ابن عربي، وقد عمل في الصحافة الثقافية والنشر في تونس والأردن والإمارات،
فيما يواصل تجربته حالياً في عالم النشر الرقمي للكتب من بريطانيا عبر منصة "الف
كتاب وكتاب".
من نصوص الرواية نقرأ:
في تلافيفِ رأسي قِفارٌ معزولة يقتلها الصَّمت. فجأةً تُداهمها
أصواتُ ضَوَارٍ تَجُوح، وأيائلَ تئنُّ، وخيولٍ تصهلُ، ونساءٍ يصرخْنَ، ورجالٍ
يبكون.
أرى سُيوفاً تُسحبُ من أغمادها، ورِماحاً تتشابَكُ في حقولٍ
مَحروقةٍ، ومنجنيقات ترسل صخورها لهدم القلاع، وبنادق آليَّةً مُصوَّبة على
الرُّؤوس، وطائرات تُلقي بحِممِها، ومواد كيماويّة تكوي الأجْساد، وجُنوداً يهربون
في كلّ اتّجاه بحثاً عن الحياة بين رُكام الجُّثث.
حين أعودُ إلى نَفسي أُحاول أنْ أُغلق هذه الفُوَّهة التي انفتحت
في رأسي من طلقةٍ عابرة، أو ذلك الجُرح الَّذي ما يزالُ ينزف من طعنةِ خنجرٍ في
صَدري. أُلقي بنفسي في حُضن أُمّي وأعودُ طفلاً بلا ذاكرة، يتخثَّر الحَليبُ فوق
شفتيَّ في خيمةٍ تتأرجحُ وسط صحراء لا نهاية لها. هُناك حيث يلتصق الأًفق بزُرقة
السًّماء، وتهبطُ نجماتُ اللَّيل كي تَغفو فوق رمالِها.
تربَّصْتُ بالجبلِ طويلاً حتَّى انقطع المارَّة عن السَّير قُربه،
واختفى الحُرَّاسُ. لمْ ينتبه أحدٌ لي وأنا أصعدُ الدَّرجات، وأتلمَّس مُنعرجات
السَّفح نَحو القِمَّة. هذه هي اللَّيلة الثَّانية الَّتي أُحاولُ فيها الوُصول
هناك، ودخول تلك الفَتْحَة الَّتي أَظنُّها تُفضي إلى كهفٍ ينفتحُ على مدينةٍ
شاسعةٍ لا حدود لها.
المقامُ الَّذي في الأعالي، قد يكونُ علامةً فقط تدلُّ على شيءٍ
آخر، وربَّما لا ضريح في داخله، ولا علاقةَ لهُ أصلاً بذلك النبيّ الَّذي تَقاسمَ
الرِسالة مع أخيه، ولمْ يَصلْ إلى هذه البلاد قطُّ.
قرأت ذات مرَّةٍ أنَّ هُناك مَقاماتٍ كثيرة في بُلدان شتَّى
بالاسمِ نفسِه. لا شيء يستطيعُ أنْ يُؤكّد الحقيقة، فالتَّضْليلُ طالَ التَّاريخَ
المُعاصِر، فما بَالكم بالغابِر؟!.
تلافيف رأسي مأهولةُ بأصواتٍ وخيالاتٍ وروائحَ وألوانٍ لا تُحصى:
مدنٌ مُزْدحِمة بالطَّاعون.
رائحةُ قهوةٍ وهِيلٍ تتسرَّب من خِباء.
حَنُوطُ أمواتٍ مَجْهُولين.
قناديلُ مُعلَّقةٌ في مارستانات .
أثداء رَؤومةٌ مُدلَّاةٌ لأطفالٍ جَائعين.
دَناءاتٌ من بَحَّارة عابِرين.
خُمورٌ مَسكوبةٌ فوق الطُّرقات.
ترانيمُ في كنائِسَ نائيةٍ.
جَبابرةٌ يَبحثونَ عن مَذبَحةٍ.
كواسِرُ شاردةٌ من حريق.
تبَاريح لعشَّاقٍ حائرين.
هجومٌ ُمباغت لقبائِل الهِكسوسْ.
طرائدُ هاربةٌ من قنَّاصة مُحترفين.
بركاتٌ تهبطُ على مَجذوبين.
وكان هناك في الرؤى الَّتي مَرَّت من أمامي، وعجبت منها إذ تبدو
مُنبثقةً من بين ثنايا هذه المدينة وبيوتها المُجوَّبة في الصَّخر، وتنطبعُ على
تعرُّجات وديانها وسفوحِ جبالها، وكأنَّ الأمكنة قد تداخلتْ، والأزمنة قد تداعت.
إرسال تعليق