ديوان تقفل يدها ثانية
سميح فرج
مهمة الشاعر إمتاع المتلقي، حتى لو كان موضوع/فكرة الديوان/القصيدة قاسية، فهو لا يقدم فكرة مجردة، بل من خلال قالب أدبي/جمالي، وهناك لغة شعرية تحمل ما يريد تقديمه، وهذا ما يجعل القصيدة/الشعر أكثر استدامة وبقاءً من البيان السياسي، والشاعر/الأديب أحيى وأكثر حضورا من السياسي.
في الديوان "تقفل يدها ثانية" يقدم الشاعر واقعه كفلسطيني يرزخ تحت نير الاحتلال، ويعاني من بطش وهمجية وعنصرية هذا المحتل الذي يحرمه من حقوقه الإنسانية والوطنية والقومية.
إذن مشكلة الفلسطيني في الاحتلال ومعه، فهو من ينغص عليه حياته وعيشته، الشاعر يقدم مشهد "في اليوم التالي" عن سلوك الاحتلال وكيف يتعامل مع الفلسطيني:
"قرقعة فوق المنزل:
إفتخ باب...!
يتدحرج إبريق في المطبخ
صينية قش تسند قامتها وتكاد تفسر
ذاكرة تتعرج فينا
لا نعرف عن ماذا نبحث
وبهذا يكون الشاعر/القاص قد حافظ على أحداث وشخصيات القصيدة/القصية التي يرويها لنا
كل الأشياء ارتجت، وحروف تدخل شبه حروف كانت، صلف منتشر، ...قلبي يدخل زاوية ثانية، يخرج من أخرى، شرخ في جسدي..."ص6.
اللافت في هذا المقطع استخدام الشاعر للإيحاء أكثر من المباشرة، فقد تحدث عن جنود الاحتلال بصورة منكرة، فلم يسمهم أو يذكرهم، مستعيضا بما سمعه منهم: "إفتخ باب" وهذا يكفي لإيصال أن من يقتحم البيت هم جنود الاحتلال، وهم مكروهين لما سيسببونه من أذى نفسي ومادي له، لهذا لم يتم تسميتهم، مما يعطي دلالة للمتلقي بحالة نفور/امتعاض الشاعر منهم من سلوكهم.
وإذا ما توقفنا عند الصورة السابقة سنجد فكرة الخراب الذي يحدثه الجنود حيث جاءت بصورة غير مباشرة، من خلال "إبريق، وصينية" وهما مذكر ومؤنث، المذكر/إبريق قاسي ويتحمل الأذى لهذا وجدناه يتدحرج، بينما الأنثى/صينية ناعمة وقفت/تستند في حيرة مما يجري في المكان، وهذه الأنسنة للجماد تحسب للشاعر الذي أحيا الجماد/إبريق، صينية، ومن خلالها نقل لنا أفعال جنود الاحتلال.
ونلاحظ أن الشاعر يركز على الكلام/الأصوات في أكثر من موضع، "قرقعة، إفتخ، يتدحرج، حروف (مكررة)" وهذا له علاقة بزمن اقتحام جنود الاحتلال المنزل، لهذا وجدنا هذا التركيز على الأصوات/الكلام، ففي الليل، حيث السكون يمكن سماع أي صوت بواضح.
لهذا وجدنا الخوف يسيطر على الشاعر: "قلبي يدخل زاوية ثانية، يخرج من أخرى" وهذا يعود إلى الأصوات، وإلى الجنود المقتحمين، ونلاحظ أن الشاعر أخر الحديث عن ألم الجسد: "شرخ في جسدي" إشارة إلى حالة النفسية الصعبة التي يمر بها، مما جعله يهمل/يتجاهل جرحه الجسدي مؤخرا الحديث عنه، ومقدما الحديث عما يشعر به نفسيا.
رغم مرور الزمن، يبقى زمن/وقت الأسر حاضرا في الأسير وفي أهله، وهذا يشير إلى أن من يؤسر هو إنسان، له مشاعر، هموم، رغبات، حاجات، له أهل، وله أم، في قصيدة "في كل صباح تحمل صورته" يتحدث الشاعر عن حال الأسير وكيف تتم زيارته من الأهل، والطريقة التي يُعامل أهل الأسر:
"يتحرك
باص السجن صباحا فجرا، والحزن تكدس فينا، صور، ذاكرة، شغف
وسلام أخشى أن أنسى هذا أو هذي
جبال واقفة فينا، وجبال جالسة تقرأ أو تكتب
وتحدق في كل كتاب" ص15.
اللافت في هذه القصيدة/القصة البساطة واللغة (العادية) التي جاءت بها، ومع هذا أوصل الشاعر فكرة عن الأسير وما يعانيه في الأسر، والأهل وما يواجهون أثناء الزيارة، وأعطا صورة واضحة عن وحشية المحتل، وصلابة الأسرى وقدرتهم على التفوق والتألق من خلال: "جبال واقفة فينا، وجبال جالسة تقرأ أو تكتب، وتحدق في كل كتاب" فالشاعر قدم صورة غير المباشرة عن الأسرى، مؤكدا أن هناك مبدعون يقبعون في سجون الاحتلال، من هنا ركز على أهم فعل يميز الإنسان "القراءة والكتابة والتفكير/التأمل.
بعد حديث الشاعر عن الجبال/الأسرى ينقلنا إلى حيثيات زيارة تلك الأماكن الخلابة، إلى أولئك الرجال الشامخين:
"يتخافت صوت الباص رويدا
يتوقف
نتوقف أيضا
نزداد حسابا، نسمع قرقعة الزمن الغائب
لا أعرف إن كنا نجلس أو شبه وقوف كنا
يتبصر واحدنا ما سوف يكون بعيد الحظة
والرهبة واقفة فينا أو معنا
الكل يجمع نشوته
يفرك عينيه قليلا." ص17.
نلاحظ أن هناك صورة عامة لأهالي الأسرى/"نتوقف، نسمع/فينا، معنا الكل" وهذه إشارة غير مباشرة إلى الأعداد الكبيرة للأسرى، وأيضا نجد صيغة أنا المتحدث حاضرة: "لا أعرف" مما يجعل الشاعر/القاص حاضرا في الحدث، بمعنى أنه من أهالي الأسرى، ورغم بساطة الاسلوب إلا أن فكرة/موضوع الحدث يصل إلى المتلقي.
ونلاحظ أن هناك تكرار للفظ "يتوقف، نتوقف، وقوف، واقفة" وهذا يأخذنا إلى زمن الانتظار، وإلى وضعية الوقوف الطويلة التي يقفها الزائر ليتسنى له مقابله الأسير، ويأتي حديثه عن المشاعر التي تلازم الزائر: "لا أعرف، يتبصر، والرهبة" ليؤكد أن هناك بشر لهم مشاعر وأحاسيس، ترتبط وتتعلق بتلك: "الجبال الواقفة فينا" لهذا أنهى المقطع: "يفرك عينه" للنظر إلى جمال وشموخ تلك الجبال.
بعد الحديث عن أهالي الأسرى ينقلنا إلى شخصية محددة، أم أحدهم:
"النبرة هذي واضحة جدا قالت:
أعرفها إني
ألأتذكر، جاؤوا في وقت
في تلك الليلة قالوا:
"هو بيغجع بعد شوية"
آه "بعد شوية"..!
نفس الصوت المتعرج هذا:
"هكول
أوليخ بيتا
يله؟
أمسكت الحجة أطراف الثوب الأسود
وتسرب غيب
وانكسرت صور
واحترقت صور
وارتج الكون طويلا
...
...
ويقال بأن الحجة:
في كل صباح تحمل صورته وتحدث كل السيارات إن مروا
ومساء تجلس قدام الدار" ص17-19.
إذا ما توقفنا عند هذا المقطع، سنجده الأطول في القصيدة/القصة، وهذا يعود لسبب تناوله أم الأسير وما تحمله من مشاعر تجاه ولدها، حيث تستعيد حادثة الأسر والزمن/الوقت الذي جرت فيه، والأصوات/الكلمات التي سمعتها.
وبهذا يكون الشاعر/القاص قد حافظ على أحداث وشخصيات القصيدة/القصية التي يرويها لنا.
الشاعر ركز أيضا على الكذب والوحشية التي يتعامل بها الاحتلال مع الفلسطيني، إن كانت أثناء عملية الأسر: "هو بيغجع بعد شوية، آه. بعد شوية"..!، وبعد الأسر: "هكول، أوليخ بيتا، يله؟" وهذا ما جعل الأم ترتعد لعدم السماح لها بمقابلة أبنها الأسير.
فتركيز الشاعر/القاص على المشاعر الإنسانية من خلال تسليط الصورة على الأم بعد أن تذكرت مجريات الليلة السوداء التي أسر فيها ابنها: وما أصابها بعد أن منعت من الزيارة، أكد العلاقة الوطيدة التي تربط الأسير بعائلته، وعندما أنهى القصة/القصيدة بهذه الخاتمة:
" في كل صباح تحمل صورته وتحدث كل السيارات إن مروا، ومساء تجلس قدام الدار" أراد الشاعر الإشارة إلى استمرار زمن الأسر: "كل صباح، ومساء تجلس" ليس بالنسبة للأسير فحسب، بل لأهله/لأمه التي تنتظر عودته.
أجزم أن بنية هذه القصية وما فيها من تكثيف أكدت قدرة الشاعر على المزج بين فنية القصة وفنية القصيدة، بحيث استطاع الجمع بين الحسنيين معا، ويقدمهما في بشكل جميل وممتع.
الكتابة/القصيدة
بما أننا نتحدث عن شاعر، إذن هناك كتابة، هناك قصيدة، الأداة التي بها يوصل لنا ما يريد طرحه، كما أن القصيدة/الكتابة بالنسبة للشاعر تمثل أحد عناصر التخفيف/الفرح التي يلجأ إليها ليتجاوز واقعه البائس، لهذا نجد "سميح فرج" يتحدث عن الكاتبة/القصيدة في أكثر من موضع في الديوان، يقول في قصيدة "قرأت في المكان هدأة رهيبة":
"قصيدة
تقوم من ترابها
ومن هضابنا
وذكرياتنا التي..." ص26.
نلاحظ أن الشاعر يؤنس القصيدة، ويعطيها صفات إنسانية، كما أننا نجدها حاملة لبعد الوطني الفلسطيني، فهي ابنة الأرض: التراب، والهضاب، وأيضا ابنة الإنسان: "ذاكرتنا" وهذا ما يجعلها تمثل الفلسطيني بكل جلاء.
لكن للشاعر لغته الخاصة، وطريقته في تقديم القصيدة، يحدثنا عن كيفية رؤيته للقصيدة:
"هنا غياهب الوضوح يا قصيدتي تبصريه
هنا الغموض، إنه
مرافئ
كثيرة
هنا مسارب كثيرة
هنا مغارب كثيرة
هنا سريرة، تفحم الذين يفهمونها لأجلها
هنا بصيرة الغموض إنها هنا
هنا الجبال كلها
هنا الرمال كلها
الله... ! يا بلادنا" ص29.
اللافت في هذا المقطع طريقة تعامل الشاعر مع القصيدة، فهو لا يقدم فكرة/مضمون واضح أو مباشر، بل يريد من المتلقي أن يفكر/يتأمل/ يتوقف عند القصيدة، ليصل إلى ما فيها من مضمون/أفكار، من هنا جاء "غياهب، الغموض، مرافئ، مسارب، مغارب، سريرة، بصيرة" تحث المتلقي على التفكير/الـتأمل فيما يقدم له، وبما أنه ختم المقطع ب:هنا الجبال كلها، هنا الرمال كلها، الله..! يا بلادنا" فقد أكد ارتباط القصيدة بالتراب الفلسطيني، بمعنى أنها كالشجرة التي يزرعها الفلسطيني في الأرض، فتحمل جمال ثنائي، تسر من ينظر إليها، وأيضا تعطيه من ثمارها.
مسـالة الغموض لا يريد بها الشاعر التميز عن غيره من الشعراء، بل يهي الوسيلة لأفضل لتقديم ما يريد طرحة، فالفكرة الجاهزة/الواضحة تذهب بمجرد أن تُسمع/تُقرأ، بينما الفكر التي تقدم من خلال الإيحاء، تكون أكثر بقاءً، لما فيها من جمال، ولأنها وصلت بعد بحث وتفكير، في قصيدة "وكنت رائقا" يقدم نموذج عن القصيدة التي تحفز القارئ على التوقف والتأمل:
" الكأس
نصف فارغ
يقول صاحب، وأنت دائما هناك، وأنت دائما
أقول إنني، نعم
أنا هنا إنني، أنا هناك
.......
وحيتنها
عزفت عن الوضوح مفرداتها
أو هكذا، أنا اعتقدت أنه يجب
وقلت يومها
عليك أن تكون شاهقا
وواثقا
عليك أن...
وبعدها
وضعت فوق أول الكلام صخرة كبيرة
وكنت رائقا
وعشت يومها
وكان
صوت ناينا الذي يئن أو يجوس في "هناك
يستريح
كان يستريح كلما تهالكت يداه
ثم يستعيد ظله من الدخان، والجبال دائما
ومن شهية الخيال
ويجمع القصائد المشردة" ص62 و62.
في هذه القصيدة مجموعة الألفاظ تحث العقل على التفكير/التأمل: "نص فارغ، أنا/أنت هناك (مكرر)، عزفت عن الوضوح، تكون شاهقا، وضعت صخرة، صوت ناينا، ظله من الدخان والجبال، الخيال" نلاحظ أن الشاعر يستخدم "هناك" في أكثر من معنى/مدلول، وعلى القارئ أن يفكر فيما تعني ال"هناك" ويعترف بأنه: "وضعت فوق أول الكلام صخرة كبيرة" وهذا له مدلول ديني، تتمثل بخروج المسيح من القبر وتدحرج الحجر من مدخل القبر، التي ردا صريحا على من يشكك بعودة المسيح إلى الحياة، فالشاعر من خلال "الصخرة" أراد من القارئ أن يفكر في خروج القصيدة من (قبرها) وصعودها إلى السماء/الحياة، ليصل إلى فكرة أنه أمام معجزة، وعليه أن يؤمن بها، لأنها جاءت بعد معاناة وألم وجهد:
"صوت ناينا الذي يئن أو يجوس في "هناك""
من هنا يجب التعامل مع القصيدة على أنها فعل غير عادي، فهي تأخذ جهد وتعب وطاقة كبيرة من الشاعر، لهذا نجده يكرر "يستريح" كتأكيد للجهد الذي يبذله في تكوينها وإخراجها لحياة.
وكإشارة على سمو القصيدة يختم ب: "الدخان، الجبال، الخيال" وهذا يشير إلى أن القصيدة تتجاوز السطح/العادي، فهي تحتاج إلى بحث ونبش وتفكير/الدخان" كما أن الوصول إلى ما فيها، يتماثل مع الجهد/الإرادة لصعود الجبال، وبعد الوصول إلى الذروة/الجبال يبدأ الشاعر في بناء القصيدة، متأملا/متفكرا، مما يعطيها قدسية، كقدسية الصوفيين/الرهبان الذين بنوا المقامات على رؤوس الجبال.
الديوان من منشورات الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، رام الله، فلسطين، الطبعة
إرسال تعليق