-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية
  • recent .
  • جاري التحميل ...
  • recent .
  • الحمض النووي القديم يفتح نافذة على حضارة عمرها خمسة آلاف عام


    بقلم: براين هاندويرك ترجمة: طارق فراج


    قبل حوالي 5000 عام، ازدهرت الحضارات العظيمة في جميع أنحاء أوراسيا وشمال إفريقيا. كانت المجتمعات القديمة في بلاد ما بين النهرين وسومر في الشرق الأوسط من بين أوائل الحضارات التي قدمت التاريخ المكتوب؛ حيث أسست الممالك القديمة والوسطى والحديثة في مصر هياكل دينية واجتماعية معقدة كما حكمت سلالات شيا وشانغ وزو المجتمعات المتقدمة تكنولوجيًا في الصين. لكن حضارة أخرى غير مفهومة سادت على طول حوض نهر السند ممتدة عبر معظم أنحاء أفغانستان وباكستان الحديثة وإلى المناطق الشمالية الغربية من الهند. بقيت حضارة وادي السند، والتي تسمى أيضًا حضارة "الهارابان"، غارقة في الغموض إلى حد كبير بسبب حقيقة أن العلماء لم يفهموا بعد لغة شعب الهارابان، التي تتألف من رموز متشظية، مكونة من رسومات وكتابات متنوعة.


    توفر الأدلة الأثرية للباحثين بعض الإحساس بالحياة اليومية لشعب الهارابان، لكن العلماء يكافحون لتجميع الأدلة من الحمض النووي القديم لدى حضارة حوض تهر السند؛ بسبب تدهور المواد العضوية في المنطقة الحارة والرطبة - حتى الآن. كانت الحضارة غير معروفة للباحثين الحديثين حتى عام 1921، عندما بدأت الحفريات في اكتشاف مدينة قديمة في هاربان. ظل الهارابانيون لغزًا منذ ذلك الحين، تاركين وراءهم آثارًا حضرية واسعة ولغة غامضة من الرموز والرسومات، لكن القليل من الأدلة دلت على هويتهم. في نهاية المطاف، ظلت حضارة الهارابان غير واضحة، على الرغم من أن تغير المناخ كان جزءا من أسباب سقوطها.



    لأول مرة، قام العلماء بتسلسل جينوم شخص من حضارة الهاربان، التي بلغت ذروتها في المنطقة الحدودية بين الهند وباكستان بين 2600 : 1900 قبل الميلاد، وقد أعطى ذلك المقدار الضئيل من الحمض النووي ـــ من امرأة في موقع دفن عمره 4500 عام، تم انتشاله بصعوبة من بقايا هيكلها العظمي ـــ، للباحثين نافذة على واحدة من أقدم الحضارات في العالم. يثير هذا العمل، بالإضافة إلى تحليل شامل للحمض النووي القديم عبر القارة الأوراسية، أسئلة جديدة حول أصول الزراعة في جنوب آسيا. كل من الحمض النووي في جَنُوب آسيا الحديثة وجينوم الهارابان لديهما مزيج من الحمض النووي الإيراني القديم، ومجموعة من سلالات الصيادين في جنوب شرق آسيا.

    يواجه العلماء وقتًا عصيبًا في استعادة الحمض النووي القديم في جنوب آسيا، حيث يجعل المناخ شبه الاستوائي هناك من الحفاظ على الجينات أمرًا مستحيلًا

    قال ديفيد رايك، أستاذ في علم الوراثة بكلية الطب بجامعة هارفارد، في بيان: "هذه النتيجة تربط الناس في جنوب آسيا اليوم بحضارة وادي السند مباشرة." يحمل الجينوم أيضًا بعض المفاجآت. العلاقات الوراثية مع رعاة السهوب (الذين انتشروا عبر الأراضي العشبية الشاسعة من أوروبا الشرقية المعاصرة إلى منغوليا)، منتشرة في كل مكان بين الآسيويين الجنوبيين المعاصرين وكذلك الأوروبيين وغيرهم. لكن الحمض النووي لرعاة البراري غائب عن إنسان وادي السند القديم؛ مما يشير إلى وجود أوجه تشابه بين هؤلاء الرعاة الرحل والسكان المعاصرين الذين نشأوا نتيجة للهجرات بعد تراجع حضارة وادي السند. تؤثر هذه النتائج على نظريات حول كيف ومتى انتشرت اللغات الهندو-أوروبية على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم القديم. وعلى الرغم من أن الأجداد المشتركين بين الآسيويين الجنوبيين الحديثين والمزارعين الإيرانيين الأوائل قد غذت الأفكار التي مفادها أن الزراعة وصلت إلى المنطقة الهندية الباكستانية عبر الهجرة من الهلال الخصيب في الشرق الأوسط، فإن الجينات القديمة لشعوب الهاربان لا تساهم إلا بنسبة ضئيلة من تلك النسب، مما يوحي أن تلك الزراعة قد انتشرت من خلال تبادل الأفكار بدلاً من الهجرة الجماعية، أو ربما نشأت بشكل مستقل في جنوب آسيا.

    يواجه العلماء وقتًا عصيبًا في استعادة الحمض النووي القديم في جنوب آسيا، حيث يجعل المناخ شبه الاستوائي هناك من الحفاظ على الجينات أمرًا مستحيلًا. هذا وقد استغرق الأمر جهداً ووقتًا هائلين لإنتاج الجينوم من البقايا الموجودة في مقبرة "راخيجارهي"، أكبر مدن الهاربان، الواقعة في ولاية "هاريانا" الهندية الحديثة. جمع العلماء مسحوقًا من 61 عينة هيكلية، لكن واحدة فقط احتوت على كمية دقيقة من الحمض النووي القديم. كانت تلك العينة متسلسلة إلى حد مناسب، حيث تولدت 100 مجموعة مختلفة من بقايا الحمض النووي، وكانت كل واحدة منها غير مكتملة إلى حدٍ لا نستطيع من خلاله أن نستنتج تحليلها الخاص. يقول ناراسيشان: "لقد اضطررنا إلى تجميع 100 عينة معًا وحبسنا أنفاسنا، لكننا كنا محظوظين لأن هذا أعطى ما يكفي من الحمض النووي لإجراء تحليل وراثي عالي الدقة للسكان. أعتقد أنه إذا كان هناك أي شيء، فهذه الورقة هي قصة نجاح تقني"، مشيرًا إلى أن هذا النهج يحمل وعدًا للحصول على الحمض النوويّ في أماكن أخرى أكثر صعوبة. إن عينة واحدة لا تمثل شعبًا كبيرًا كان يضم ذات يوم مليون شخص أو أكثر. قام العديد من العلماء، بما في فيهم "ديفيد رايك" و"ناراسيشان"، وعشرات من المتعاونين الدوليين، بتأليف أكبر دراسة للحمض النووي تم نشرها حتى الآن من بين المتواليات الوراثية من 523 من البشر القدامى وهم أفراد من مواقع بعيدة مثل السهوب الأوراسية وشرق إيران ووادي العصر الحديدي في باكستان الحديثة.

    وجد الفريق أنه من بين العديد من الأفراد المتشابهين وراثيا، كانت هناك حفنة من المتميزين الذين لديهم أجدادا مختلفين تماما عن أولئك الذين كانوا في المناطق المحيطة بهم. ومن المحتمل أن يكون أحد عشر شخصا من هؤلاء الأشخاص الذين عثر عليهم في مواقع في إيران وتركمانستان ضالعين في التبادل مع حضارة هارابان. وفي الواقع، فان بعض هؤلاء الافراد المتميزين دفنوا مع قطع أثرية مرتبطة حضاريًا بجنوب آسيا؛ مما يعزز حالة ارتباطهم بحضارة وادي السند. ويقول ناراسيشان: "هذا جعلنا نفترض ان هذه العينات كانت من المهاجرين، وربما حتى من الجيل الأول من المهاجرين من جنوب اسيا".

    إرسال تعليق

    التعليقات



    جميع الحقوق محفوظة

    العهدة الثقافية

    2016