مدونة النقوش القديمة والمعاصرة
أحمد الخطيب / الأردن
ما الذي يُغري المبدع حين يفكّر بأن يضع جملة ما، أو يضعها مريدوه، شعراً أو فلسفة أو نثراً، أو حكمة، أو غيرها مما يحركه لسان الفصاحة، على شاهد قبره، هل هي الأنا التي تحاول خلخلة فكرة الفناء الأوّلي، أو تلك السحابة التي خاض معها جولاتها على الجغرافيا المتنوعة، فأنبت معها في حدائقها ما تنوّع مشربه وباح لسانه، أم أنّها فكرة التسلُّح بما سوف يرويه الرائي حين يمرُّ على شواهد القبور، أم هي حالة الاعتراف من المريدين بالجمال النوعي الذي أشعل قنديله في حياته.
تلك هي صورة النقش، أو لنقل صورة التواصل مع اللا زمكان، مع قياس الردّة الداخلية التي يضبط عقربها وهو يمشي في طرقات الإبداع والابتكار، معلناً أنّ ولادته تتشكّل وفق الأزمنة التي يمرُّ بها وهو في غياب الحضور، كما أنها تشكل فكرة الانبعاث عبر مادة مختزلة يمرُّ بها المارون، ليستحضروا حيواتٍ وملامح لحضارات ومجتمعات كانت هنا في الحيز المتّسع لهذه الشواهد.
لم تحتفل الحضارات شرقية وغربية بتوّع مفردات الإيقاع المنسي للتاريخ، إلا حينما استهدى المبدع إلى فكرة النقش على شاهدة القبر، فهي خلاصة التجربة، وتمام المعرفة
شرايين الأوعية الثبوتية التي تتجلّى في النقوش، هي شرايين يترادف معها دم حكاية الحياة، الحكاية التي تتخلّق من تواريخ بعض الشخصيات ومكانتها، إذ أنها تفيض بِلَبِنات الكتابة بمختلف تنوّعاتها الفكرية، اجتماعية كانت أم دينية أم لغوية، وهي بذلك تنهض بمساحات واسعة من القول الذي يأتي حياديّاً، فالشرارة التي يقدح جذوتها النقش على شاهدة القبور، تتوازن معها فكرة القبول من الآخرين غير المعاصرين لصاحب القول، إذ يصبح هذا القول مادة نصيّة قابلاً للاستشهاد والحضور الذهني عند أوّل محطة لانحسار اللفظ والمعنى بين المتسامرين.
لم تحتفل الحضارات شرقية وغربية بتوّع مفردات الإيقاع المنسي للتاريخ، إلا حينما استهدى المبدع إلى فكرة النقش على شاهدة القبر، فهي خلاصة التجربة، وتمام المعرفة، ووثوب التجسيد الإنساني الذي لا شكّ أنه مبنيٌّ على خاصرة التعاضد والتلاقي، ومع هذا الاحتفال الحضاري المشترك، تعددت أساليب الصناعات الحجرية والمعدنية الحاضنة للنقوش، وأشكالها، وتنوّعت الكتابة ورسومها وأنماطها، لتتقاطع مع حالة النقش ومراد المنقوش وبنية الغياب.
الناظر لهذه النقوش يستظهر عباءة التجربة التي عاشها أصحابها، ووفّروا مراياها التي عكست حكمة الموت والحياة، والأشواق وأوجاع الفراق، وحالة المجالدة التي ناضلوا من أجلها، وغاية المنبع الذي تأملوا أن تكون مجاريه صافية لا شوائب فيها، ومعها أيضاً يُستظهر صور الوارثين الذي جاهدوا في سبيل الاحتفاظ بحالة ورديّة تغيب معها المساحات، وفيها أيضاً يُستهدى إلى تأصيل فكرة الأثر، وبصمة الإنسان، وإمكانية حضور المعنى بعد الاف السنين.
تستمدّ الشواهد حضورها الأنيق من مفردة الحياة التي عاشها صاحب النقش، فهي مجسّمة وفق ما تحملهُ فكرة الرغبة التي بُنيَ الشاهد من أجلها، وتتنوع وفق ما يحلم به الصانع، وتتماشى مع البنية الحضارية المعمارية التي يعيش عليها المجتمع، فهي أحياناً تأخذ من الرخام أعمدتها الشاهقة، ومن الحجر صورته المطلقة في بنية البصر الذي ينحسر مع امتداد القبور، ومن المعدن تجانس غواية الحفر، كما تعددت الرموز المستخدمة على الشواهد، الدّالة على جنس الراقد ومهنته، لتشكّل بذلك كله مضامين تغري المتصفّح بتقليب صفحات الكتاب التاريخي، فمنها من ذهب إلى الآيات الدينية، ومنها من توجّه إلى النص الأدبي، ومعها سُرِدَت بعض ملامح التاريخ وأحداثه، وأقلّها تأثيثاً لمصطلح الشاهد التاريخي هو من ذهب إلى تثبيت تاريخ ميلاد أصحابها وتاريخ وفاتهم، إلى جانب إثبات الألقاب والنعوت.
قراءة الموجز الإنساني وتجلياته، والفرز بين فكرتين، الأولى الأحمال التي صنعتها صخرة سيزيف وهو يحاول صعود الجبل، والثانية الأنواء التي عاصرتها الحضارات، تفضي بنا إلى تعليل فكرة النقش على الشاهد، المتمثل بالانحياز التام لكتابة النص الأزلي في كتاب البشرية مهما تغيّرت الأزمنة، وفعلت فعلتها التضاريس.
ولمعاينة الأثر الذي تركته هذه النقوش في النفس البشرية، والتي أصبحت في متناول المجالس والدواوين، واخترقت مناحي البحث العلمي والأدبي، لما تشكله من حضور دائم رغم افتراقها عن الزمن المعاصر وتجلياتها فيه، نحاول أن نسلط الضوء على بعض النماذج التي تحتل مساحة زمنية لا يمكن التأشير على بداياتها.
من أقدم النقوش وأشهرها، نقش الشاعر والفيلسوف اليوناني أرابيوس، الذي يؤشر النقش المثبت على الشاهد إلى تاريخ 355 ميلادي، والمولود في مدينة جدارا إحدى مدن الديكابولس العشرة، يقول النقش الذي يذهب إلى الآخر: " أيها المار من هنا، كما أنت الآن كنتُ أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتع بالحياة لأنك فان".
أما أبو المسرح اليوناني، أسخيلوس، فقد نقش على شاهده صورة النفس ومراياها واحتفائها ب "الأنا"، يقول: " هذا قبر يغطي رفات أسخيلوس بن يورفيون، الذي ولد بأثينا، ومات في سهول جيلا الخصبة، وإنه لفي استطاعة غابات المارثون الشهيرة المقدسة، وفي مقدور المديين ذوي الشعور المرسلة أن يتحدثوا عن علم مكين بجراءته وشجاعته وإقدامه في ساحة الوغى".
فيما سطّر نقش قبر ماكسميليان روبسبير جلاد الثورة الفرنسية، حالة التوازن التي تؤثثها رؤية تبادل الأدوار وفق ما يرى، حيث يقول النقش:" أيها المار من هنا، لا تحزن على موتي، فلو كنت أنا مكانك لكنت أنت مكاني".
ولا تخلو النقوش من إبراز الحكاية الإنسانية على مرادها، وملامح الطرافة، وعمق الصلة بين الشخوص، حيث نقرأ مثل هذه الصور على شواهد بعض القبور، من مثل: " هنا يرقد، كان زوجاً محبّاً، وأباً رائعاً، لكنه كان كهربائياً سيئاً"، و " ارقد بسلام من جميع أبنائك، ما عدا ريكاردو فإنه لم يدفع لجنازتك"، و كتب زوج على قبر زوجته:" هنا ترقد زوجتي العزيزة، أيها الرب استقبلها بسعادة، كما أرسلتها إليك"، ومن الطرائف ما كُتب على أحد القبور " هذا شكله حرامي، ارقد بسلام، أنت الآن بين يدي الرب".
وفي تقليبنا لصفحات ومدونة النقش العربي القديم والمعاصر، نرى الينابيع ذاتها التي تجري في عروق الشواهد، لنقرأ هذا النقش الذي كتب على قبر الحاجب المنصور بن أبي عامر، أحد ملوك الأندلس، يقول النقش: " آثاره تنبيك عن أخباره، حتى كأنك بالعيون تراه"، ومن الشواهد من أثبت عليه نص شعري رثائي، كما هو حال النقش الذي أثبت على شاهد القاضي حسن بن عبد الله الدواري، الموجود ضمن التراث الأثري الضخم في صعدة اليمنية.
ومن الوصايا التي طلبها أبو العلاء المعري، نقش البيت التالي على شاهد قبره، الذي يقول فيه:" هذا ما جناهُ أبي عليّ، وما جنيتُ على أحد"، ولكن لم تتحقق وصيته، وربما كتب هذا البيت على شاهده، فاقتلعه خصومه الذين حكموا عليه بالزندقة.
ومن نماذج النقوش التي تدلّ على الوفاء، ما كتبه الشاعر محمد الماغوط على ضريح زوجته والذي يقول فيه:" هنا ترقد آخر طفلة في التاريخ، الشاعرة الغالية سنية صالح"، فيما كتب الشاعر نزار قباني على ضريح ابنه:" أتوفيق كيف أصدّق موت العصافير والأغنيات، وأن الجبين المسافر بين الكواكب مات، وأن الذي يخزن ماء البحار بعينيه مات، بأي اللغات سأبكي عليك؟، وموتك ألغى جميع اللغات".
ولا تنسى النقوش التي يكتبها المبدعون والمشاهير أنفسهم، أو من عايشوهم، من صور الانتماء للوطن، والتي تؤشّر بوضوح على العلاقة الأزلية التي تجمع بينهم وبين الأرض، مثلما النقش الذي كُتب على ضريح الشاعر محمود درويش، ويقول:" على هذه الأرض سيدة الأرض ما يستحق الحياة".
هكذا هي النقوش تفعل فعلتها في تربة لا يمكن حصرها في مكان واحد، لأنها ملك الحضارة ومورد أحلامها، وتُحدّث أخبارها عن أزمان متعاقبة ومتباعدة، ولا يمكن حصرها في إناء زمني ماض أو حاضر، لأنها تستنهض المستقبل في كينونتها اللغوية والإخبارية، وتؤكد على مهارة مضمونها وصياغته، لأنها تحاول أن تجمع المفكك، وتنقلهُ إلى ما وراء المكان والزمان.
إرسال تعليق