قراءة في رواية أنيموس للروائيّة صفاء أبو خضرة
من الأناشيد الأورفيّة اليونانيّة القديمة: " زيوس ذكر، زيوس عذراء خالدة".
وفي واحدةٍ من مخطوطات
نجع حمادي المكتشَفة عام 1945 يقول السيّد المسيح" أتخيّلُكِ كرجلٍ يا
مريم" وكان يُحادث مريم المجدلية.
ويقول محمود درويش في لاعب النّرد:"أنا من أنا الآن إلا إذا التقت الاثنتان: أنا وأنا الأنثويّة".
لكنّي أُحبّ كثيرا ما قاله القدّيس بولس الرّسول: " منذ الآن لستُ أنا من يحيا".
ويؤكّد عالم النفس كارل غوستاف يونغ، أنّ التّمايز شرطٌ لا غنى عنه للوَعي. وكنموذجٍ لهذا التمايز يقول إنّ النفس البشرية مكوّنةٌ من الأنيما وهي مصدر الأمزجة والنزوات، والأنيموس وهو مصدر الآراء.
" الأسئلة كانت تتناسل في أعماقي بطريقة مدهشة، وتتوالد كأنّها قنبلة عنقوديّة تريد أن تهدم كلّ ما بوسعها هدمه، ولا تترك شيئًا خلفها قابلًا للحياة ." ص17
يستثير الأنيموس بحسب يونغ عند النساء المثقفات حُججًا وبراهين تسعى لأن تكون منطقيّةً ودقيقةً، ولكنها تقتصر على ما يلي: تتحوّل نقطة ثانوية إلى موضوعة أساسيّة على حساب تناقض في المعنى أو يتعقّد نقاش واضح بذاته إلى أقصى حدّ، بإضافة وجهات نظر جديدة لا شأن لها نهائيًّا بالنقاش الأساس.
إنّ مثل هؤلاء النسوة يُلاحقن ومن حيث لا يدرينَ هدفًا واحدًا، وهو إقلاق الرجل وإخراجه عن طوره.
لذا، يجب الإجابة عن سؤال( تيم ) في الرواية: " ماذا يعني أصلًا أن أكون رجلًا؟ .. أنا مجرّد كتلة هلاميّة بلا ملامح محكومة بهذه القضبان الأبديّة، تقتلني الحقيقة حين أدرك أنّ خروجي ما هو إلا سقوط بلا نهاية". ص13
إنّ الأنيموس طريقةٌ لتكثيف كلّ التجارب التي راكمَتها السلالة البشريّة الأنثويّة إلى جانب الرجل. فالأنيموس إذن كائن خلّاق، متعدّد الشخصية، فيما الأنيما شخصيّة أحاديّة.
" هل سألتَ نفسك يومًا لماذا أنت متعدّدٌ في ذاتك؟ وكأنّ بينك وبين آخَركَ ذاك حبلًا سريًّا يُغذّيك، إن قُطِع انقطعت عنك الحياة؟ "ص48
الشّعور بدونيّة معنوّية لا يتأتّى من خلافٍ مع القانون الأخلاقيّ (الاعتباطيّ بمعنىً ما)، لكنّه يتأتىّ من صراع الفرد مع نفسه، مع ذاته، التي تُطالب بإلحاح أن يتمّ سدّ الفجوات المظلمة داخله ..." ماذا يعني الطُّهر؟.. أليست العقائد والشرائع التي سُنّتْ كي تُخرج الانسان من شريعة الغاب، هي ذاتها ما يجلب الموت والدّمار حين تُقرأ من الجهة الأخرى؟ ". ص71
في رواية أنيموس لا نتعرّف على الشخصيّات من خلال ما يُقال عنها، بل تُشركنا صفاء في أفكارها الأشدّ خصوصيةً، ( أقصد أفكار الشخصيّات)، والتي تُقدّمها في الرواية تلقائيّةً، فيما ترصد الكاتبة تسجيلًا متواصلًا لانطباعاتها وتأمّلاتها، وتساؤلاتها وتهويماتها.
" هل فضُّ أسراري قتلٌ لخوفي؟ هل أُطلق العنان لعبءٍ حملته سنواتٍ حتى يوغلَ في روحي الهذيان؟ فأصير حرًّا بلا أسرار". ص9
عادةً المونولوج الداخليّ في الرواية صعب، وأعتقد أنّ صفاء استطاعت أن توظّفه بنجاحٍ ووعيٍ، إذ تفادت أن يفرض إيقاعه البطيء على السّرد، وهي ميزته عادةً، كان يمكن أن يضجر القارئ بتفاصيل ثانويّة، كما استفادت الكاتبة من تجربتها الشعريّة، فوظّفت اللغة بما يضفي على أبسط الأحداث والمشاعر جاذبيّةً خاصّةً.
"أحلامي كالينابيع تُداعب الذاكرة، أتوحّد مقابل حلم يُغريني، أُفصّلُهُ كما أشتهي. أضع بدايته وأُحيكُ نهايته، تزجّني الأفكار في ملهاة جرحي، ترتعش قامة الليل، أترسّب في قاع الفكرة، يتأفّف النهار منّي، وأخوض من جديدٍ معركتي مع الحياة". ص12
فرضت شخصيّة تيم - تيماء الانتقال بين نمطين من المونولوج، بحسب تطوّرها أو تحّولها، ومعها برزت قدرة صفاء على التعامل مع الحالة النفسيّة للشخصيّة المتحوّلة الغاضبة، المُستسلمة، الحائرة والقلقة.
"هل كنت ذلك الرجل الممدّد بلا حياة، أم ذلك الولد التّائه الضّائع الذي يصحو كلّ صباح ويخرج من الجسد، ويتجوّل باحثًا عن الحقيقة؟" ص181
" كنت أتقن دور تيماء العاشقة، ربّما تعلّمتُ شيئًا من أمّي، ربّما هي الهرمونات التي حقنوني بها طوال عامٍ بأكمله جعلتني أفقد البوصلة، وأتوه، أتخبّط بأنوثةٍ عمياء... أنا مجرّد امرأةٍ لا تعرف ماذا تريد، ضائعة". ص143
برأيي كان يمكن أن تبقى الرّواية في عمقها الكاشف لو لم تذهب بعيدًا نحو داعش ومناطق نفوذها لتختبر تحوّل الأنثى في تيم-تيماء. كان من الممكن أن تكون أكثر عمقًا لو بقيت في محيطها الاجتماعيّ عبر إبداع مسارٍ مختلفٍ يؤدّي نفس الغرض.
يقول ميشال سوران : لا يدوم إلا ما هو قابل لتعدُّد التأويل.
رواية أنيموس مفتوحةٌ على التأويل، هي نتاج تجربة ذهنيّة ونفسيّة، وربما تجربة حياتيّة خاضتها الكاتبة أو تعرّفت عليها، تعكس وعيًا لافتًا.
روايةٌ جريئةٌ في الموضوع، مغامرةٌ في الأسئلة، الإجابة عليها ستعكس حقيقة وعينا وإنسانيّتنا.
إرسال تعليق