في ديوانه الصادر عن دار
دجلة للطباعة والنشر عام 2016 , يبدع الشاعر الأردني محمد خضير في مسألتين اثنتين
من الممكن أن تشكلا إضافة نوعية ابداعية إلى المعاني الوطنية والقومية التي تزخر
بها القصائد التي احتواها الديوان والتي نافت عن الأربعين, ونقصد هنا نجاحه في
تجواله في بعض المدن العربية واستحضار الصعاليك من شعراء الجاهلية العرب, ليشكل
توأمة ناجحة بينهما وبين العنونة.
فقد استخلصت مما قرأت في هذا الديوان, أن الشاعر محمد خضير يريد أن يقول إن قوة الكلمة ورصانتها وإن طال بها الزمان, تجعلها تمكث في الأرض وتعطي أكلها في كل حين, في حين أن سقط الكلام والهزيل منه يذهب هباءً منثورا, فلا ينفع صاحبه ولا ينتفع به الناس. وقد ورد في القرآن" وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض, فأما الزبد فيذهب جفاء" وقد فسره الطبري على أنه الحق والباطل, فالحق باق والباطل إلى زوال, والحق ينفع الناس والباطل زبد زائل.
وقبل الخوض في غيض الكلام, العنوان
الذي قاد القصيدة الرئيس والتي تعنون بعنوانها الديوان, لا بد من الوقوف عليها
لنسبر المعنى الذي أراده الشاعر من خلال التوأمة, فما المقصود بغيض الكلام وما
علاقته بالتجوال وبالصعاليك؟
غيض
"بكسر الغين وفتح الضاد" تبدأ بحرف الغين, والغين من الحروف التي تبدأ
بها كثير من الكلمات القابلة للاختفاء والتغطية, كما أشار الاستاذ " أحمد
محمد زين المناوي في إحدى مقالاته مثل غاب وغار وغط وغم وغاص وغرق وغلف
وغير ذلك فهي في هذا المقام أيضاً مع القلة, فغيض الكلام قلته ونقصه, وما تم ذكره
في هذا المقام وإن قل الحديث فيه, فهو باق شئنا أم أبينا, لتشكلا معاً جزءاَ من
التاريخ.
ومحمد خضير
كشاعر عربي شاب له شعوره الخاص الذي يتفق مع عموم الشباب العرب, يفرح لفرح الأمة,
ويحزن لحزنها, فقد جال بمفرداته على بعض المدن العربية المحتلة منها والمجروحة
والسعيدة, فتفاعل مع الجرح حيناَ ومع الفرح حينا, وعبر شعراً عن مكنونات النفس
لديه, إما مستنكراً, أو متألماً أو غابطاً, فنجد قصيدته تحط رحالها في
مدن محددة فرضت نفسها على ذاكرة الشاعر الشعرية, فاستحقت الذكر وتمركزت في بؤر
القصائد, فكانت من غيض الكلام ,سعياّ لتخليدها في ذاكرة الشعر العربي, إما
لمكانتها الخاصة لدى نفس الشاعر كما هي عمان, أو لأمر ما استحق التجوال فيها.
فعمان العاصمة الأردنية المعروفة بكونها موئلاً لكل العرب طالبي الحرية والأمن والأمان, فقد استشعر فيها الشاعر هذا الحس العروبي, ومدح صمودها في وجه كل الأخطار وقال: عمان كم ضاقت بلاد بالومى/ ووسعت يا صدراً تعمد بالسما لك يا ملاذ العين رأفة راحم/ إن أدمعت: سبع* تجلت بلسما. *سبع هي جبال عمان السبع
"رضعت النار من لهب وثدي الام لم يصد/ فسار الموت في خوف إلى الطرقات في البلد/ كأن الموت في دوما حياة الناس للأبد".
ويجول الشاعر في الجزائر, والجزائر كعاصمة وكدولة لها مكانتها عند كل العرب لما قدمته من شهداء وهي تقاوم الاستعمار الفرنسي ولكرم أهلها وشعورهم القومي تجاه أمتهم, فنجده مادحاً فيصف أهلها بالرجال ونساءها بالحرائر حيث يقول:
" قوم رجال والنساء حرائر/ والمجد طبع والبلاد جزائر
عتمت بصيرة من اتاك منازعاً/وبنوك في عتم السبيل بصائر.
أما القدس قبلة المسلمين الأولى التي لها مكانتها عند المسلمين والمسيحيين, ففيها ثاني المسجدين وثالث الحرمين وتحتضن كنيسة القيامة, فقد فرضت نفسها هي أيضاً في ذهنية القصيدة عند الشاعر فنجده يفرغ لها مكاناً في شعره حيث يقول:
" القدس شان المترفين تنازلاً/ والعلج يبني في سلام هيكلة.
ودمشق العاصمة السورية المعروفة بعراقتها وأصالة أهلها كأقدم عاصمة بالعالم يستنكر شاعرنا أنينها ووجعها ويصفها بأنها صارت مسرحاً للموت حيث يقول: ودمشق تستجدي الحياة بعسرة/ والموت في جنباتها ما أسهله
وصبرا المدينة اللبنانية التي شهد مخيمها مجزرة بحق أطفالها فيقول فيها" هذا دمي يشكو أصابع قاتله أن تهجر الأطفال كالدمى فوق الرصيف بلا دماء.
والصعاليك الذين صدقت أفعالهم أقوالهم, وكثيراً ما وصلتنا أفعالهم, لكن خضير يذكرنا بهم في ذات القصيدة إذ يقول:
(كذب عيون الشعر, لحظ سهامها/ إبلين قيسا, والسليك ,وعنترا
ما نحن في صدر الخطابة أهلها/ لنكون في صدر المطايا شنفرا )
فها هو في البيتين السابقين يستحضر قيساً والسليك بن سلكة وعنتره العبسي والشنفرى
والصعاليك من شعراء الجاهلية ومن أصحاب معلقاتها, فهم شعراء من قبائل العرب جمعت بينهم صفات القلة والحاجة والشجاعة, والتقوا على الفاقة حد الصعلكة, فثاروا على قبائلهم وتحللوا من نظمها, لكنهم على فقرهم كانوا أصحاب مبادئ تناولوها في أشعارهم, تميزت الفاظهم بقوة اللفظ وجزالته, أحسنوا حيث استطاعوا اعطاء صورة واضحة عن قساوة البادية حينئذ, وعن تنكر العرب للونهم أحيانا, ولمنبتهم أحياناً أخرى وامتاز شعرهم بالصدق والواقعية والقدرة على التصوير, وقيل أنهم كانوا يسلبون الطعام ليـكلوا وليطعموا الفقراء من حولهم. فقيس الذي ذكره الشاعر هو قيس بن الملوح العامري أحد شعراء الغزل الذي عرف بمجنون ليلى لأنه عاش صغيرا مع ليلى وحرم منها عندما كبرت, فهام على وجهه يقول فيها الشعر, وقد عثر الناس على جثته في العراء فأخذوه إلى أهله.*1
أما السليك بن السلكة فهو بن عمير بن سنان التميمي, ورث من أمه الزنجية العبودية وقبح المنظر والنحافة والفقر. اتصف بالجرأة وشدة البطش بالخصم والسرعة حيث كان كما الشنفرى وتأبط شراً, يسبق الخيل ويعرف مسالك الطرق. كان شعره غزلياً دقيق الوصف, فخور قوي التراكيب وقليل ما وصل من شعره, ويعد السليك أول من رثى في شعره الحيوان, ورثته أمه حين هلك متسائلة عن سبب وفاته بقولها: طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك.. أمريض لم تعد أم عدو ختلك.. أم تولى بك ما غار في الدهر السلك.. إن أمراً فادحاً عن جوابي شغلك.. سأعزي النفس إذا لم تجب من سألك.* 2
وعنترة بن شداد العبسي ولد من أميرة حبشية تدعى زبيبة أسرها والده وأنجب منه عنترة وأخويه جرير وشيبوب, ولأنه كان يحسب مع العبيد, ولأن زوجة أبيه سمية وشت لأبيه أن عنترة راودها, ذاق مرارة الحرمان والذل والمهانة من والده, لدرجة أنه لم ينسبه إليه إلا بعد أن كر على من أعتدوا على عبس وأبلى بلاء حسنا, حيث كان يقترن اسمه بالشجاعة والحيلة والحنكة في الحرب. وهو الذي قال:" كنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة التي يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقله". أحب عنترة أجمل نساء القوم ابنة عمه مالك الذي رفض أن يزوجها له وأعجزه في المهر. ومن أقواله:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم/ وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
لا تسقني ماء الحياة بذلة / بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم / وجهنم بالعز أطيب منزل
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل / مر مذاقه كطعم العلقم
ويروى أنه مات في التسعين في غزوة عبس لطيء, حيث أصابه سهم الأسد الرهيص الذي كان عنترة قد تسبب له بالعمى في حرب داحس والغبراء حيث قال في حينه:" وإن ابن سلمى فاعلموا عنده دمي / وهيهات لا يرجى ابن سلمى ولا دمي.*3
لكن ما العلاقة بين التجوال في المدن
المذكورة وبين استحضاره للصعاليك من شعراء العرب في ديوان غيض الكلام؟ الواقع يقول
أن المدن المذكورة لها عمق في التاريخ كما هم الشعراء المذكورين فهم ضاربون بتاريخ
الأدب العربي قبل الاسلام. نضيف إلي ذلك أن كلاً من الطرفين يشكل إضاءة تاريخية
تمثلت بالعطاء المتواصل الذي كان له الأثر على المتلقين من جمهور المثقفين وغيرهم
من المتلقين بشكل عام. ونستطيع الاضافة أن كليهما أيضاً يعمل لمصلحة الآخر فالعطاء
سمة عامة تجمع بين الطرفين.
المراجع
1 نبذة عن الشاعر قيس بن الملوح مريم العريني
كامل سعيد عواد- السليك أخباره وشعره 2
3بحث عن عنترة بن شداد- أيمان الحياري
إرسال تعليق