-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

الكتابة كعنصر فرح وتخفيف في ديوان "حمى في حسد البحر" / الناقد رائد محمد الحواري

الكتابة كعنصر فرح وتخفيف في ديوان

"حمى في حسد البحر"  

 أحمد الخطيب

بداية ننوه إلى عناصر الفرح التي يلجأ إليها الشاعر تتمثل في المرأة، الطبيعية، الكتابة، التمرد، والكتابة بالنسبة لشاعر/ للأديب تعد أهم العناصر بالنسبة له/ فبها يؤكد ذاته، وبها يكون شاعرا/أديبا، ودونها يمسى شخص عادي، منها هنا تأتي مكانة الكتابة، في ديوان "حمى في جسد البحر" نجد أكثر من قصيدة تتحدث عن الكتابة، فغالبية القصائد في الديوان تتناول الكتابة ومكانتها بالنسبة للشاعر، يقول في قصيدة "الحلم":

"كان المعنى

بوضوح الشعر يراودني

إذ أجلست النص، وروحي

في باطن كفي

لكن الواقع كان يشد الصورة في الشعر،

إلى أن تنتج مرآة يديها

أو يغمض أسطورته،

 ليصير الحلم هو المقياس" ص34.

 في هذا المقطع نجد حضور الكتابة في أكثر من لفظ: "المعنى، الشعر، النص، الصورة، الشعرية، أسطورته، وهذا يقودنا إلى الفكرة التي يريد طرحها، فالشاعر لا يريدها أن يكون طرحها (عادي):

"كان المعنى

بوضوح الشعر يراودني" لأنه شاعر، من هناك استعان بأدوات تساعده على تقديمها بشكل يليق به كالشاعر: "مرآة، أسطورته، الحلم" من هنا تم (توضيح) أهمية هذه الأدوات ودورها في الشعر: "ليصير الحلم هو المقياس" وإذا أخذنا بداية المقطع "بوضوح" ومنتصفه "يشد" وخاتمته "ليصير" نكون أمام حدث أقرب غلى القصة، فهناك بداية عادية، وصراع/"يراودني" ونهاية/خاتمة، فالواقع/ "الوضوح" تحول بعد الصراع إلى "حلم/أسطورة" وهنا يكمن دور الشاعر تحويل ما هو جامد/عادي إلى صور أدبية تحفز القارئ على تأملها والتوقف عندها.

وفي قصيدة "رخام الهجرة" يقول:

"قالوا:

أعطيت،

فأجزلت،

ووفيت،

فقلت: قليل أن يكتب من طحنته الريح

قالوا: وجمعت العالم في كف الشعر، فقلت: وهل أنسى أرضا جزعت منذ نما في المنفى وجع، وتهدج في الليل جريح؟

وقالوا: وسكرت بماء الشعر طويلا

وصعدت إلى آخر ما يبنى في الكون، فقلت: وهل يمنحني هذا حجرا من ارض بلادي، ويغطيني في البرد إذا ما جهز في منفاي ضريح؟" ص35و36.

بداية نشير إلى أن هناك فكرة وألفاظ متعلقة بالشعر/بالكتابة: "فأجزلت، ووفيت، يكتب، الشعر (مكرر)" وهذا يخدم وحدة موضوع الديوان والفكرة التي يتناولها، فكرة الكتابة/الشعر.

نلاحظ وجود حوار بين فرد/الشاعر وبين مجموعة، وكل طرف أخذ مساحة ليعبر عن فكرته، لكن نلاحظ أن حديث المجموعة "قالوا" أقل/أقصر من قول الشاعر، وهذا يعود إلى أن المجموعة قبل أن تقول كانت مجتمعة ومتفقة، بمعنى أنها حضّرت للحوار، من هنا جاء كلامها مكثفا ومختصرا، بينما الشاعر لم يحضر لهذا الحوار، مما جعله إجابته تحمل شيئا من (الشرح/التفسير)، كما نجد أن المجموعة تريد من الشعر السكون والاكتفاء بما وصل إليه وحققه من إنجازات: " أعطيت، فأجزلت، ووفيت، وسكرت بماء الشعر طويلا، وصعدت إلى آخر ما يبنى في الكون" لكن الشاعر يرد عليهم بمنطلق المُجدد الذي لا يشبع/يكتفي/يقبل بما هو كائن ويريد المزيد، معتمدا على معاناته: "نما في المنفى، وهل يمنحني هذا حجرا من بلادي، ويغطيني من البرد" اللافت في رد الشاعر انه يحمل المحفز المعنوي/الروحي/الوطني/ القومي: "المنفى، بلادي"  والمحفز المادي/الحسي  "يغطني من البرد" وبهذا يكون قد رد بشكل وافي على المجموعة، فهم تحدثوا عن إنجازاته كفرد، وهو رد عليهم كفرد لكنه متعلق/منتمي لشعبه الذي هجر في المنفى وما زال يحن إلى بلاده، وما زالت ألم الهجرة عالقة فيه، فالشاعر المنتمي/الوطني/القومي/الإنساني لا يقبل أن يستكين أو يهدأ، فهو دائم الحركة/الفعل/الإبداع.

 وقبل الانتهاء من المقطع نشير إلى أن موقف الشاعر فيه تمرد/ثورة على ما هو سائد، فالواقع/المنطق يدفعه لقبول ما حققه من مكانه وإنجازات، لكنه كشاعر منتمي يرفض ولا يقبل لنفسه أن يستكين، وبهذا يكون قد أضاف إلى الكتابة فكرة التمرد/الثورة.

في قصيدة "لك ما تريد" أيضا نجد فكرة الكتابة:

"(1)

لك أن تحدد ما تريد من الكتابة

عنب الأساطير البعيدة، حين تكتشف القصيدة في ثياب الأبجدية، حاجب الليمون إذ يصحو على حلم، وذاكرة المساء إذا أتم الماء رقصته، فراشة  نفسه تحبو على قبس بعيد.

(3)

لك أن تحدد ما تريد من الكتابة

زمنا، وذاب على سريره حبة عنب، كما أسلفت يشرح دمعتي للناي، حين يرقرق الوجد المخبأ في دمي، وغزالة ما استسلمت لغزالة، ولها بأن تطوي الرسائل في البريد" ص41و41.

 الكتابة حاضرة في ألفاظ: "الكتابة (مكررة)، الأساطير، القصيدة، الأبجدية، الناي" ونجد أيضا حضور الطبيعة: "الليمون، فراشة، عب، غزالة (مكررة)" ونلاحظ أن الشاعر لا يقدم عنصري الفرح الكتابة والطبيعية بطريقة عادية، بل يدمجهما معا ويقدمهما بصورة شعرية: "الليمون إذ يصحو على حلم/ وذاكرة المساء إذا أتم الماء رقصته/ فراشة  نفسه تحبو على قبس بعيد/ وذاب على سريره حبة عنب/ يشرح دمعتي للناي" وإذا أخذنا بداية كل مقطع: "لك أن تحدد ما تريد من الكتابة" التي يمكن أخذها على أنها سؤال يحتاج إلى جواب، نصل إلى نتيجة أن الطبيعة التي قدمت بصورة شعرية جاءت كنتاج للكتابة، ودون الكتابة تمسي طبيعة (عادية) لا يتوقف عندها القارئ.

يأخذنا الشاعر إلى فلسفته في الكتابة في قصيدة "مثلث الأسماء" حيث يقدم رؤيته للكتابة لإبداعية وكيف يجب أن تكون:

"(1)

هي لا تريد من اللغة

إلا خروجا عن مرايا النص،

نحو سلالة موصولة في بئرها

(2)

هو لا يريد من اللغة

إلا خيال المسألة

...

ولكم تمنى أن يدل الريح أن تأتي،

وأن تختار من رسمي

فضاء الجملة المتخيلة

وأنا الذي باعدت بين الموجتين

وكنت أرغب في انكسار المقصلة

...

الأرض ارعبها انحناء السنبلة

(3)

أنا أريد من اللغة

أنثى،

وحرفا

لم تكن متسللا من طاقة المعنى،

ورسما طائرا من جسمه" ص49-52.

اللافت في هذه القصيدة أننا نجد أكثر من وجهة نظر حول الكتابة فهناك "هي، هو، أنا" وهذا التعدد في الضمائر يخدم فكرة التعدد في وجهات النظر، بمعنى أن الشاعر لا يقول/يقدم فكرة واحدة ويجب الالتزام بها، بل يقدم وجهت نظر/ أفكار متعددة ومتباينة عن الكتابة الإبداعية، وهذا يمثل (ديمقراطية) الكتابة، والآن لنتوقف عند أفكار الكتابة الإبداعية، ونبدأ من هي: "خروجا عن مرايا النص" فالطرح هنا يتجاوز (الصورة) العادية إلى ما هو أبعد وأعمق، أما هو فيرى/يريد الإبداع: "إلا خيال المسألة" فمعنى العبارة لا يمكن أن نمسكه/نحدده، فالمسالة بعد من تحدد، وبما أن الخيال أيضا شاسع ولا يمكن حصره بشيء/بمكان/بحالة/بشخص/بفكرة نكون أمام فكرة/طرح يتجاوز كل مع هو عقلي/منطقي/واقعي، أما أنا فنجدها في: "تختار من رسمي فضاء الجملة المتخيلة" وهنا يؤكد الشاعر أهمية التخيل في الإبداع ودوره في تقديم ما هو جديد، ويضيف : "أنا أريد من اللغة أنثى، وحرفا لم تكن متسللا من طاقة المعنى، ورسما طائرا من جسمه" أهمية وجود الأنثى في النص الأدبي تكمن في أنها تمنح نص لمسة ناعمة، هادئة تخفف على الكاتب/الشاعر وتعطيه القدرة على كتابة ما هو قاسي وشديد، وبالتأكيد سينعكس هذا الهدوء والنعومة على المتلقي الذي سيستمع بما يقدم له فبل أن يتقف متأملا فيه.

بعد هذا (التنظير) عن الكتابة الإبداعية وكيف يجب أن تكون، يعطني الشاعر نموذج حي عما طرحه: "ورسما طائرا من جسمه" صورة أبعد من أن يتم تفكيكها، فهي محلقة في السماء "طائرا من جسمه" ولا يمكن أن نمسكها أو نقترب منها، وكل ما علينا هو النظر إليها من مكاننا الأرضي ونتخيل صورة "ورسما طائرا من جسمه".

كلنا يعلم أن انحناء السنابل كناية عن حملها وخصبها، لكن الشاعر يرفض هذا الانحناء: "الأرض ارعبها انحناء السنبلة" وهذا تأكيد على رفضه المطلق لكل انحناء ما كان شكله ومضمونه ودوافعه، بهذه الدلالة المعكوسة يمكننا القول إن الشاعر يستخدم التخيل بلا حدود، بحيث يقلب الفكرة العقلية ويقدمها بشكل جيد، فهو من خلال هذه الفقرة يقدم نموذج حي على التخيل ودوره في تقديم ما هو جديد وخارج العقل والمنطق وما هو مألوف، وهنا يكمن إبداع الشاعر، فهو يتحدث عن نظرة ثم يستخدمها ويطبقها بطريقة عملية، فترسخ الفكرة في ذهن القارئ ويأخذ بها لتكون له مرشدا نحو الإبداع.      

 

الديوان من منشورات أمانة عمان الكبرى، طبعة 2007.

     

 

 

 

  

 

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016