حين أقول أحمد الخطيب، فإنّني أعني أحمد كُلَّه؛ الإنسان والشاعر، إذ يصعب الفصلُ بينهما، فهو ذو الرَّنين الأسمى في الخيال والتعبير والتَّفكير، وفي الصَّمتِ المليء بالكلام.
إنّه أحمد المختلف في السلوكِ والعاطفة، والمختلف في
القصيدة تفكيراً وتعبيراً.
أرادت الحياةُ أن تحبسَ حواسَّه وشُعوره في دورق العلم
حين تسلّط الطِّبُّ على رغباته في دراسته في بلغاريا، ولكنَّ طِبَّ الأجسادِ جافٌّ
على شعوره الحياتيّ، فَشرِبَتْه وعورة الحياةِ وقسوةُ العيش والظروف فانثنى عن
الطبِّ بابتسامة مُرّة، واستبدلَ بِالطبِّ العربيةَ؛ أوسعَ اللغاتِ صدراً،
وألْيَنَها عِظاماً، وأوفرَها موسيقى، يطرقُ مفرداتِها فتترقرقُ وتتمدَّدُ بين
يديه حُروفَ لينٍ مِطواعة.
لقد أعادتهُ لسعةُ النَّحل إلى نداوتِه الأولى، إلى تلك
الساعةِ التي كان فيها حين صَهَرته ابتسامةُ بِنتِ الجيران غراماً وتحرُّقاً
وشوقاً. والعاطفةُ لا يُحرِّكها غيرُ مِغزلِ الكبتِ والضغط، فانفتح شُباكُ القلبِ
ودخله الهوى/ الهواء مقصوراً وممدوداً، فأفلتَ من شِقِّ القلمِ ثلاثةُ أبياتٍ من
شعر الوجدان العالي، يعرفُ مَن قرأها أنه أمامَ مُصوّر ماهرٍ يجري مع خياله في
سرديَّة قلبٍ ظلَّ قناعُ الحياء مسدولاً بينه وبين المخاطَبة نزولاً على الأعراف
الاجتماعية من جانب، وكبرياء الرجولة الرائعة من جانبٍ آخر، فالعرافُ الاجتماعيةُ
زمانَها كانت تُذكي في الفتى رجولةً كما يُذكي الحياءُ العِفّة. لكنَّ الحياة ظلّت
ترقص بين جفنيه يخفضه الشعرُ ويرفعه فيستقصي أثره في منابعِ نفسه النّزازة بماء
الشعر المختلف من ضُحى قصائده حتى أصيلها.
وإذا كان الطبُّ ينشغل بأجسام المرضى ما بين نفخة
إسرافيلَ وخَنقةِ عُزرائيل، فإنّ الشاعر ينشغلُ بجوّانية الأحاسيس البشرية ويغوصُ
في عالمهم الأكبر والأصغر منذ أزل الحياة إلى أبد الآبدين. وكما للأجساد أزياء
فإنّ للأدب وللشعر خاصة أزياء منها الكلاسيكيّ والرومنطيقي والرمزي والسوريالي.
وكأنّ بأحمد الطيب الشاعر قد وعى صرخة عنترة وهو يقول: هل غادر الشعراءُ من
متردَّمٍ
فراحَ يبحثُ في أشجاره الشعرية عن ثمر جديد، وإن تشابه
شكلُه مع الحداثة فإنَّ مذاقَ لغتِه وإيقاعَها مختلفٌ، فتناجى فيه الفكرُ
والوُجدان، وظلَّ الوزنُ والإيقاعُ في قصائده مستمرّاً في الماضي الخليليِّ لكنّه
يُقلّبُه في أطوار حياةٍ موسيقية مختلفة.
عرفتُ أحمد في بواكير نداوته الشعرية قبل ما يقاربُ
أربعين عاماً في قصيدة " المغفرة" ولم يكن يومها قد أصدر ديواناً بعد،
ورحتُ أنظرُ إليه شخصاً بعين الخيال، فأرانيه خيالي شاعراً شابّاً نبيلاً في
الحياة والشِّعر، يدفعُه نُبلُه إلى الأمام وييشقُّ طريقه في مضارب الشعر العربيّ
بثباتِ الواثقِ من الاكتهالِ في معالي الشعر، فما ضلَّ طريقه ولا تاه. فمن يتأمّل
شعره في أعماله الشعرية يجده وقد استوى على سوقه ويجد فيه فنون الرسم والموسيقى
واللغة والمسرح والعِمارة، وسيجد في كل قراءة لقصائده تأويلاً يقوم على الخيال
والابتداع، وكأني بأحمد وهو يكتب قصيدته مسكون بسؤالِ: ما هو الشِّعر؟ فيغدو كلُّ
ما في الشعر عنده متحرّكاً نحو العقل والخيال ونحو اللغة التي تحلّق بأجنحة
المجازِ المتجدد، فتوقظ فينا قصائدُه الفكرَ النائم في وسادة الماضي أو على أرائك
الحداثيين الذين اطمأنّوا إلى فروع شجرة الحداثة وتنكّروا لجذورها.
فالشعر عند أحمد اكتشافٌ للمعرفةِ والفهم وفلسفةٌ تلتحم
فيها الفكرةُ مع الوجدان، ووجودٌ يضاهي الوجود بل يعلو على الوجود ليظهر هذا
الوجود بخيالاته ومجازاته ورموزه، فالعقل الذي يفكّر في القصيدة هو نفسه الذي
يتخيّل الفكرة في صورها ومعانيها، فتبدو قصيدته الغابة التي تمنحنا ظِلالُها كلَّ
ما في أشجارها من ضوء الموسيقى وإيقاعِ حركتها ولغةِ أغصانها ومرايا صورها وكل ما
تنطوي عليه من رموز وأسرار، فتشتعلُ معها حواسُّنا كأنّنا في لحظة شطح صوفيّ.
إنّ الصوفيّةَ العريقة التي تنطوي عليها نفسُ أحمد هي
أحد محرِّكاتِ القصيدة لديه، فهو يكتب قصيدته في لحظة شطح في جوّانية الفكرة التي
تتفتّقُ وتنفتحُ كالزهرة وهي تخرجُ من الظلِّ إلى الضوء فتبعثُ فيه وفي قارئها
غبطةً وانتشاءً. وهكذا يكون الشعرُ مختلفاً؛ حضور من ظُلمة الغياب وحياةً أُخرى من
عدم الموت يدخل إلى قلب الوجود فيكشف ما تخفّى فيه.
لهذا يدعوك أحمد لقراءة شعره بكلِّ حواسك وأن تُنّبه
حواسك لكي تتصادى مع بعضها لتربط الفكرةَ مع الخيال واللغة والصورة وأن تعي
الكثافة والغموض الشفيف. عليكَ أن تجمع حواسَّكَ وحدوسك. ربما هذا ما نحتاجه لندرك
الفرق بين فهم الشعر واستعذابه؛ إذ ليس بالضروة أن تستعذب ما تفهم، فالشعر شبكة
معقّدة من العلاقات، فليس من وظائف الشعر أن يحقق فينا الفهم، يكفي الشعور
باللذاذة واختراقه للصمت والفراغ فينا لنشعر بمعنى وجودنا.
هذا بعضٌ من أحمد الشاعر، ولكم أـن تضعوا له النعت الذي
يروقُ لكم ويليقُ به ونحن نحتفي به وبتجربته
التي عاش بها زمناً فيه الرضا والغضب، والودّ والتشاكس، والعسر واليُسر،
لكنّه ظلّ قابضاً على جمر قصيدته؛ قصيدته المختلفة التي يعرفها قارئها بسيماها في فكرتها الثائرة وحنينها إلى
الوطن، كما يعرفها في عرفانه الصوفيّ وهو يتأمل العالمَ والأشياء في جواهره
وأعراضه، أو لوعة المحبّ في شغفه وحنينه، وغيرِ ذلك من موضوعات قصائده التي يشيخ
فيها فنُّه حزماً وعزما.
في حياة كلِّ شاعر دقائقُ وتفصيلاتٌ. وحياة أحمد الذاتية
والشعرية تلخصُّها عبارةٌ وردت في خُطبة
ولاية الحجاج: ( إّني والله لا أَهمُّ إلا أمضيت)، لذلك لم يكن أحمد صديقاً
للتراخي والتردُّد والتأجيل، فهذه المعاني لا تُحقّق ألاً ولا تُبلِّغُ مرتبة،
فمضى مع مزاجه الشعريّ لا يعبأ بالنقدِ إن
قال فيه رأياً أو سكتَ عنه حتى جاءه الإنصافُ من غيرِ هذه المسكونة. والأكواخُ
منابتُ العباقرة، وتأمَّلْ تجدْ أقوى الأشجار ترتفعُ بين شقوق الصخور إلى العالي. وشجرة
أحمد الذاتية والشعرية لم تعرف نعمة الترابِ والسماد بل شقّت عناد الصخر بقوة
وصرامة.
كثيرةٌ هي المحطّات التي تحتاج إلى تأمُّل تجربة الشاعر
أحمد الخطيب، ولعلّي الليلة أمسكتُ بموجة من موجاته الشعرية. ولعلّ هذه الأمسية
الاحتفائية به تهزُّ الوعيَ المتصحّر وتوقظه للتكفير عن غفلة النسيان وهو يمارسُ
لعبة المحو والإثبات.
أكتفي بهذا
القدر ع بالغ تهنئتي لأحمد الخطيب
وأشكر لكم حضوركم وإصغاءكم
إرسال تعليق