الأسير الشاعر ناصر الشاويش وديوان "أنا قلت لي" قراءة أولية
الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت
يعد أدب الأسرى من أصدق أنواع الكتابة سواء كان
ذلك على مستوى النثر أو على مستوى الشعر، لأنه وليد تجربة حية صادقة، فالإبداع
يولد من رحم المعاناة. ويهدف إلى تصوير الحياة التي يعيشها المعتقل خلف القضبان،
من سحق لكرامته إلى الاهانات وحالات التعذيب التي يتلقاها، إلى الحالة النفسية
والشعورية التي يعيشها بعيداً عن الأهل والأصدقاء. لينتج أدباً وطنياً مقاوماً
يمجد النضال ويرفض واقع القيد والاحتلال.
وهذا الأدب يشكل عالماً مستقلاً بذاته، عالم
يفكر خلف جدران محكمة الاغلاق، يرى الشمس من خلف أعمدة حديدية، ولكنه يحافظ على ذاته
من الانهيار بالكتابة عن تجربته الصادقة والمعبرة عن معاناة حقيقية، وتبرز صمود
الأسير أمام المحققين ورفض المساومة على الشرف الوطني، ورفض الظلم الاجتماعي
والقومي والعنصرية، مؤكدة على الالتزام بقضايا الجماهير والوطن. ولم يأت هذا الأدب
تنفيساً عن لحظة اختناق أو تصويراً للحظات بطولة، إنما عبر عن حالة إنسانية وأبعاد
فكرية ونضالية.
بين أيدينا ديوان (أنا قلت لي) للأسير ناصر جمال
موسى الشاويش، من مواليد مخيم الفارعة في محافظة طوباس سنة 1975، اعتقل في أيلول
عام 2002، وحكم عليه بالسجن الاسرائيلي المؤبد أربع مرات، وذلك بتهمة الانتماء إلى
كتائب شهداء الأقصى والمسؤولية عن تنفيذ عدة عمليات عسكرية ضد جنود الاحتلال
الاسرائيلي. تمكن خلال سنوات اعتقاله من استكمال دراسته وحصل على درجتي
البكالوريوس والماجستير من جامعة القدس المفتوحة. في المعتقل خلق من المعاناة مادة
للكتابة فكتب خمسة دواوين شعرية وهي: طقوس تموزية (2009)، وللقيد ذاكرة وخنجر
(2014)، وذاكرة البنفسج (2015)، وأنا سيد المعنى (2022)، وجميعها منشورة، وفي قطاع
غزة نشر ديوانه الخامس "أنا قلت لي" سنة 2022. كما نشر له العديد من
القصائد والمقالات السياسية والثقافية في الصحف المحلية والعربية، وحاز على عضوية
الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين.
يأتي ديوان (أنا قلت لي) في 164 صفحة من القطع
المتوسط، واحتوى على 51 قصيدة معبرة عن ذات الشاعر في القيد، يكتب الشاعر مقدمة
لديوانه عن تمرد قصيدته على قيود السجان يقول: "لأن الأسير الشاعر خاصة، يعرف
كيف يحول خياله إلى عصافير تحلق فوق حدائق الوطن الحبيب، وإلى خيول شاردات تسبح في
سماء الحرية المشتاة، وقوافي شعره إلى نسور متمردة على الأقفاص الفولاذية والغرف
المغلقة. فإنه يصعب أسره حتى لو كان يعيش حالة السجن واقعاً معاشاً، لأن قصائده المتمردة
على أقفال الاحتلال وفاشية السجان، تظل أعلى وأعلى من أبراج الحراسة ومناظر السجان".
يؤمن الشاعر أن حريته تكمن في حرية أفكاره وفي
مدى وصولها لشعبه يقول: "لأن الحرية هي حرية الأفكار وطالما أن الأسير قادر
على التفكير الابداعي رغماً عن إرادة السجان، وإيصال هذه الأفكار إلى جمهور قرائه،
فإنه سيكون أكثر حرية من صاحب القفل والمفتاح وأدوات القمع في سجون الاحتلال
الصهيوني، كما قال فولتير: "لا يضرني أن ليس على رأسي تاجاً ما دام في يدي
قلم"، فكيف إذا كان هذا القلم ثائراً حبره ممزوج برائحة اللحم المصلوب على
الأسلاك الشائكة، وممزوج برائحة البرش الناقع بالألم، وبيد فلسطيني يبني أحلامه
بالحرية بين مؤبد ومؤبد وبين قصيدة وقصيدة".
إن ممارسة الكتابة هو الانتصار الحقيقي للأسير
في تحديه للسجان والأبواب والأقفال، من جاءت تجربة الشاعر الأسير ناصر الشاويش.
هو ذا أنا .. قد عدت أعرفني/ فمرحى بالذي قد عاد
من منفاه حراً/ مثل عصفور يحطم القفص اللعين وينطلق/ حراً إلى حدائق حلمه.
يضطر الأسير حينما يلوذ إلى الانفراد والانعزال
والارتباط بالمكان إلى ما يخالج الذات، وهذه الغرفة القابع فيها ليست قدراً
مطلقاً، بل مرتبطة بذات الشاعر بقرينة الرؤية نحو الانطلاق، والشاعر كما هو معلوم
هو الذي يشعر بما لا يستطيع غيره الشعور به، ويعلم ما لا يعلم غيره. ومن هنا
يأخذنا العنوان (أنا قلت لي) إلى عالم الوحدة التي يعيشها الشاعر في قيد الأسر،
حيث يختفي عالمه الحقيقي: الأهل، والأصدقاء، والأسرة، فتبقى الذات أسيرة الذات
يناجيها ويبث اليها همومه وآلامه يقول في القصيدة التي تحمل العنوان: أنا قلت لي/
لن ينجلي الليل الموشح بالنوى/ إلا إذا حملتك أجنحة النوارس/ كي تعانق في الفضاء/
فضاء شمسك في الأصيل/.
هذه هي أحلام الشاعر الحرية والتحليق في الفضاء،
ويراقب الشمس عند الأصيل، فالقيد حرمه من الانطلاق كالفراشة بين الجداول والحدائق.
فالشعر يعد من أكثر الفنون ارتباطاً بالذات وتعبيراً عنها، ولكنه أيضاً يرتبط
بالفضاء الجمعي الذي يتشارك فيه الأسير.
يقول في قصيدة (غزة): يا من تخوضين الصراع
تجدداً ضد العدم/ ضد انحباس الشمس في الأفق الرحيب/ يا من تحكين السماء بوجهك
الوضاء/ حيث تحضنك القمم.
يجسد الشاعر في قصائد ديوانه النزعة التأملية
المعبرة عن الاغتراب في الواقع المعايش، والتعبير عن هموم الأسير وأحلامه، وحنينه
إلى عالم بعيد مفعم بمظاهر الحياة والحب والحرية. وقد عمد الشاعر إلى إبراز تفاعل
ذاته مع الموضوع المرتبط بنفسيته محاولاً وضع المتلقي أمام مأساته.
يقول في قصيدة (النبي الهارب): أنا يا أبي/ ما
كنت أيوب الزمان، ولست يوسف/ كي أواجه في الدجى سبعاً عجافاً/ ثم سبعاً، سبعتان من
الأسى بين/ انتظاري واحتضاري انتظر/ وحياً سماويا يقود خطايا في درب النفسج/ نحو
أعراس الحقول.
ترتبط قصائد الشاعر بقصيدة النثر التي تعد
الأكثر ارتباطاً بصوت الذات، وتعبيراً عن نوازعها وقلقها الوجودي، فهذه الذات التي
تحيا بين جدران ما زالت مسحوقة تحت سلطة السجان، وقد استعادت ذاتها وكينونة وجودها
في الحياة من خلال القصيدة.
يقول (في القصيدة): في القصيدة حين تكتبها
وتكتبك القصيدة/ قد ترى ما لا يراه سواك/ ترى وجوهاً أو بلاداً/ أو بقايا أمنيات
مثل عشب الصخر/ تنبت في رباك. ... في القصيدة كل ما تشتاق يأتيك طوعاً/ وكل ما لا
تحتمله وتحتمله/ يصير أيضاً في القصيدة مبتداك ومنتهاك.
يحاول الشاعر أن يجعل من قصيدته مناجاة لذاته،
وللذوات الأخرى الهاجعة في زوايا ذاكرته، فهذه الذات المنتجة للنص تستجدي في مرآة
ذاتها خصائص مؤثرة عبر استلهام الطبيعة، والمرأة، والواقع المعاش، والأهل، والوطن،
لتشكل رؤيته للعالم المعبرة عن ذات موجوعة بالألم واللوعة والحنين والاغتراب.
غزة: 28/3/2023
إرسال تعليق