-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

" سوف نَنْسى كثيرًا من الشِّعر " / الشاعر مهند ساري

.

.

في ذكرى صديقي الجميل 

الشاعر الطّبيب: إبراهيم الخطيب

1/4/2011م

.

.


لم أَزُرْ صاحبي منْذُ أَكْثَرَ

 من سنتَيْنِ :

انْشَغَلْتُ بِحكْمةِ صَفْصافةٍ في

أَقاصي الشَّمالِ ، 

بِرَتْقِ السّماواتِ بالأَرضِ كنتُ انْشَغلْتُ

ودَرّبْتُ قلبي على شُبَهِ الضّوْءِ في

خِفّةِ الأَبديّةِ ... 

لكنّني .. لم أَزُرْ صاحبي !

لم أُطِلَّ على الكلماتِ الأَخيرةِ 

وهْيَ تُنَقِّرُ شُبّاكَ غُرفَتِهِ مطَرًا خافتًا

مَطرًا كالحياةِ الّتي صوّبَتْهُ إلينا حَمامًا

وطار إليها سِهامًا .. لِيُرْجِعَها !

.

.

لم أَزُرْ صاحبي !

لم أَكُنْ حاضرًا

في هديل الزّفافِ الشّتائيِّ

حين ارتدَى غيمَةً أُرجُوانيّةً

ثُمّ أَغْمَضَ عينيهِ 

- مِلءَ البلادِ الّتي  خُطِفَتْ من يديهِ -

وأَغْمضَ غاباتِ أَشْعارهِ كلَّها وهْوَ يَذْوي

ويُصغي إلى ريشِ غيمتِهِ الرّطبِ خلْفَ

عويلِ الرّياحِ ...

هنالك أَصغَى طويلًا صديقي .. لِيَسْمَعَها

.

.

كانَ غَنّى الحياةَ كما جَرَحَتْ قلبَهُ

ثُمّ مالََ على نَصلِها حانيًا

مثْلَ طيرٍ ذبيحٍ .. يُعالِجُ مَصْرَعَها  /

– : " يا أُخَيَّةُ ، لا تَجْزَعي !

سأُداوي بِلَحمي وقلبيَ نَصلَكِ ...

يَسْطَعُ هذا العبيرُ السّماويُّ في

رئتيَّ ، ويُرجِعُني طائرًا بينَ

إِخْوتيَ الطّيرِ .. ( وجهًا لِوَجهٍ ) معَ

الأُرجوانِ الّذي سيكونُ هنالكَ قُمْصانَ

نومي الأَخيرةَ في غُرَفِ الأَبديّةِ ...

أَخْضَرُ إيقاعُ نَبْري ،

وروحيَ خضراءُ ، والكلماتُ الّتي

خَرَجَتْ مِن بلادي معي ،

وظلالِيَ في السّجنِ خضراءُ ، مثْلَ

سحابةِ عُشْبٍ على تَلِّ إربِدَ تَفْتَحُ

في اللّيلِ نافذةَ السّجنِ لي .. وتُغنّي

فأُبْصِرُ قلبيَ أَبْعَدَ مِنْ حائطِ السِّجْنِ ،

أَبعَدَ منهُ وأدفَأَ ... 

أُبصِرُ قلبيَ في السّوقِ معْ أَصدقائي ،

وأُبْصِرُهُ في( العيادةِ ) يَشْهَدُ ميلادَ طفلٍ يُغنّي ..

وإِنّ الولادةَ مثْلُ الكتابةِ 

–أَعني: الكتابةُ مثْلُ الولادةِ– :

وجْهَا ندىً عالقٍ في ثيابِ الحياةِ الجميلةِ ... "

... 

كان الطّبيبَ الّذي يَكْتُبُ الشِّعرَ

والشّاعرَ المُصطَفَى لِوِلاداتِ أُنْثاهُ

– وهْيَ القصيدةُ –

تلك الّتي سَطَعَتْ

في مَخاضِ النّدى .. حينَ ضَوَّعَها 

.

.

فتىً من أَقاصي الحنينْ

لهُ ضحِكٌ كالبُكا

وبلابلُ بيضاءُ في شَجَرِ الآخَرينْ

كَبِرنا على ظلِّهِ الأَبَويِّ

وأَتْحَفَنا بسُلافةِ تلك السُّلالةِ ،

بالدّمْعِ والشّهْدِ أَتْحَفَنا

وبنَجْوى الأَنينْ

وكنتُ وأَحمَدُ "*"  نَهْفو نُطيِّنُ أَبوابَ

وَحشَتِهِ في (العيادةِ) ليلًا

بتلكَ النّجوم الصّغيرةِ ،

بالشّهَقاتِ وَتِبْرِ القصائدِ 

حتّى غَلَبْناهُ فيها

وحتّى سَدَدْنا عليه المَنافذَ ! 

لكنّهُ كان يَضْحَكُ مثْلَ أُبٍ فَرِحٍ بِهَزيمتِهِ :

" هكذا ، لا أَبا لَكُما ، فاكْبَرا ... "

وكأَنّهُ مَنْ كتَبَ الشِّعرَ /ذاكَ الّذي

قد غَلَبْناهُ فيهِ 

فأَكْبَرَ ، من كَرَمِ النّفْسِ، أَنْ يَتَبَرّمَ أو يَضْجَرا ! 

ويُطِلُّ علينا سعيدًا رَضِيًّا

منَ الورَقِ المُتَناثرِ من كُتُبِ الضّوءِ :

" تلكَ دواوينُكمْ ... "

ويَراها على رَفِّ غَيبٍ .. ولَسْنا نَرَى !! 

آهِ كمْ هَبّتِ الرّيحُ في الغُرفةِ الحجَريّةِ

حتّى تناثَرَ ريشُ القصائدِ من حَولِنا ! 

ثُمّ كَمْ كانَ وَلْهانَ يَحنو عليها

–بِأَكثَرَ مِنْ غافِلَينِ– .. لِيَجْمَعَها !

.

.

ظَلَّ يَرسُمُ فوقَ السُّطورِ طَرائقَ مُوحِشَةً

ثُمّ يَسْلُكُها شبَحًا حائرًا ،

لا يُبالي بأَنْ يستريحَ :

فَيَمْشي .. ويَمْشي

إلى أَنْ يموتَ .. ويَقْطَعَها !

.

.

صَبَّ في كأْسهِ الموتُ خَمْرتَهُ الأَبديّةَ

لم يَرْتَجِفْ !

قال: " فَلْتَمْلأِ الكأْسَ ما شئْتَ ،

قلبي سليمٌ معَ الطّير والضّوءِ ،

قلبي على غيمةٍ خَفَقَتْ في الأَعالي ... "

ومثْلَ كثيبٍ من الرّملِ تُنْقِصُهُ الرّيحُ

ظلَّ، هنالكَ، فوق السّريرِ يُنادِمُ مَرقَدَهُ

ثُمّ في آخِرِ الأَمْرِ مَدَّ إلى كأْسِهِ يَدَهُ

وأَكَبَّ عليها ثلاثَ سِنينَ .. لِيَجْرَعَها !

.

.

نَقَصَ القلبُ من أَهلِهِ قمَرًا يانِعًا

ونَقَصنا جميعاً بلابلَ "بيضاءَ" في

شجَرِ الفجْرِ ... 

لكنّني ظَلْتُ أَسأَلُ نفْسيَ :

كيفَ يَزيدُ الحياةَ جَمالًا أَخي

فتَهيْتَ لهُ

ثُمّ يُفْلِتَها مِن يديهِ وتُفْلِتَهُ ؟!

كيفَ بالصّمتِ حاوَرَها لِثلاثِ سنينَ

وأَقْنَعَها

بِرَحيلٍ طويلٍ كهذا الّذي

كانَ جَرّعَنا خَطبَهُ .. حينَ جَرَّعَها ؟! 

.

.

حجَرٌ كلُّهُ قلْبُها ،

قلبُ هذي الحياةِ 

وقلبُ أَخي حَجَرٌ  

–وَوَيْحَهُما حَجَرَينِ عَنيدَينِ–

إذْ طاوَعَتْهُ على ما انْتَوَى

وهْوَ طاوَعَها !

.

.

ويُحِبُّ القصائدَ والشُّهَداء ،

يُحِبُّ النّساءَ كما الشّعَراءُ الّذينَ

أَحَبُّوا النّساءَ .. وظَلُّوا على طُهْرِهمْ !

لم يَخُنْهُ الكلامُ الّذي يَشْتَهي 

والّذي يُشْتَهَى ..

ويُحَمْلِقُ في السّقْفِ حينَ يُديرُ

حِوارًا معَ امْرأَةٍ

أَوْجَعَتْهُ كهذي الحياةِ

وضِعفَينِ –إذْ غابَ– أَوْجَعَها !

.

.

ويُحِبُّ فِلَسطين

كالشُّرَفاءِ منَ النّاسِ .. كالحالِمين !

يُؤَدّي فُروضَ الهوَى

في صَلاةِ الحنين

وقد كان صلَّى لها عُمْرَهُ ركعةً

هكذا واقِفًا 

في القيامِ الطّويلِ الطّويلِ

وما سَلّمَ الرُّوحَ

–عندَ " السّلامَينِ" – إلّا لِيَركَعَها !

.

.

لاجئٌ ، صاحبي ، من فِلَسطين ... 

كانَ هنا لاجِئًا

ثُمّ صارَ ، كذلكَ ، في غَيبهِ ! 

ليس للشّعَراءِ ، ولو وهِموا ، وطَنٌ في البلادِ الأَسيرةِ

ليس لهمْ زمَنٌ في الحياةِ القصيرةِ 

طُلّابُ " يُوتُوبِيا "  كلُّهمْ

فانْتبِهْ أنْ تُورِّطَ  قلبَك في 

حُبِّ أَرضٍ هنالك فوقُ !

هنالك ليس التُّرابُ سوى حُلُمٍ يَتَماسَكُ

في صورةٍ تَتَماسَكُ

في ظلِّها المُتَماسِكِ في رَغْوةِ الكلِماتِ

إلى أَبَدِ الآبِدين

 فظَلَّ هناك بِلا وطَنٍ يا صديقي ،

وظَلَّ هنالكَ ظِلًّا وَفِيًّا لِغُربتِك الأَبَديّةِ

لِلكلِماتِ الّتي

طالَما بِتَّ في بابها ساهرًا

عندما كان دمعُكَ– للفجرِ– نُزَّعَها ! "*" 

.

وكأَنّكَ غِبْتَ !

كأَنّكَ حقًّا خَلَتْ منكَ أُمْسيّةُ الأَمسِ

حينَ وقفْتُ لِأَقْرأَ شِعرًا تُحِبُّ !

خَلا منكَ مَقْعَدُكَ المُتَرَدِّدُ –مِثْلُكَ – في 

صَمتهِ خَجَلًا آسِرًا ! 

وخَلَتْ منكَ "رابطَةٌ " كنتَ تَنْظِمُ

في سِلْكِها خَرَزَ الشُّعَراءِ المُضيءَ

وقاتَلْتَ– نَعلَمُ– مِن أَجْلِها

كُلَّ مَنْ أَوْصَدوا بابَها .. عَنْوَةً ... 

يومَها قلتَ : " يا إِخْوَتي ،

إنّ قلبيَ بَيتٌ لكُمْ

فادخُلوا فيهِ لِلفرَحِ المُشْتَهَى في 

مساءِ الخميسِ / ادخُلوا آمِنين

ولا تُغْلِقوا البابَ مِنْ خَلْفِكُم

فَلَعَلَّ مزيدًا مِنَ الشُّعَراءِ يَجيئونَ لَيلًا

قُبَيْلَ سُقوطِ النّدى عن جناحِ القصيدةِ ! ... "

قد كنتَ تُنْفِقُ مِنْ جَيْبِكَ الخاصِّ كي تشْتري

قهْوَةً " للشّبابِ " وحَلْوَى ... 

وتَفْرَحُ حينَ تُخايِلُ مِنْ بَينِهم شاعرًا واعِدًا

شاعرًا واحِدًا

وتَراهُ جديرًا بِلَيلِكَ في السِّجْنِ

بالكدَماتِ الّتي مَلَأَتْ جِسمَكَ الغَضَّ ...! 

ما زِلْتُ أَذْكُرُ حِسَّ الدُّعابة فيكَ /

تقولُ : لقد مَلَؤُوني (وُشُومًا) قُرَيْشِيّةً !

وأَقولُ : لِكثْرةِ ما فيكَ مِنْ (زُرقةٍ) 

صِرتَ بَحرَ عَروضٍ جديدًا ،

ويُمْكِنُنا أَنْ نُؤَلِّفَ في "وَزنِكَ " المُتَهالكِ

شِعرًا جميلَ القُرُوحِ !

فتَضْحَكُ كالطِّفلِ :

" هذا هُوَ الشِّعرُ يا صاحبي !

خُذْهُ مِنْ جَرَسِ الكلِماتِ الّتي امتَلأَتْ

بِدِماء الحياةِ وأَهوالِها

هكذا خُذْهُ غَضَّ الأَنينِ فَتِيًّا .. لِتَقْرَعَها " 

.

.

ولهُ قَمَرٌ للبُكاءِ

 وأَنْدَلُسٌ لِلحَنين ... 

رَمانا بِحَسْرَتِهِ ثُمّ وَلَّى .. ولم يَلْتَفِتْ !

تلك وَحشَتُهُ تَسْكُنُ البيتَ ،

تَقْرَأُ أَخبارَهُ في جرائدَ مُغْبرّةٍ

وتنامُ على شَرشَفٍ دافئٍ مِنْ بقايا الأَنين ... 

ونحنُ الّذين

نَجَوْنا من الموتِ – لِلآنَ، مِن بَعدِهِ–

كُلّما ضاقتِ الأَرضُ فينا

زَفَفْنا حَبيبًا لنا ، ودَفَنّاهُ فيها طَرِيًّا

كَغُصنٍ مِنَ الياسَمين

ولم نَلْتَفِتْ أَنّنا

قد تَضيقُ بنا هذهِ الأرضُ أَحياءَ

ثُمّ نَموتُ .. لِنُوْسِعَها ! 

.

.

" ليس هذا على الرّأْسِ شَيْبي

–يقولُ–

ولكنّهُ غيمةٌ وَقَفَتْ

من ثلاثينَ عامًا لكي تستريح

على شَعرِ رأْسي ،

على حاجِبَيَّ وقلبي الجريح

–ويَضْحَكُ –

لكنّها حينَ تَفْرُغُ مِنْ جسَدي

سوفَ تأْخُذُ "صاحِبَكُمْ" في مَعارِجها 

سوف تأْخُذُهُ كُلَّهُ

لِسَماءِ النّدَى .. مَعَها  ... 

.

.

وأنا لنْ أُوَدِّعَكمْ أَبدًا ،

أَيّها اللّاحِقونَ ، معَ الغَيمِ ، بي

– قالَ ، وهْوَ يَحُثُّ الخُطى مُسْرِعًا

ويُداعِبُ ريشًا تَحَدّرَ منْ غيمةٍ أَقْلَعَتْ –

لنْ أُودِّعَكمْ أَبَدًا ، أَبَدًا

وكذا غيمتي هذهِ .. لنْ أُوَدِّعَها " !

.

.

.

وأَقولُ له باكيًا فوقَ هذا السّريرِ

–وقد أَنْقَصَتْني رياحُ الحوادثِ مِنْ ظِلِّهِ– :

يا أَبانا ، سَننْسَى كثيرًا منَ

الشِّعرِ / شِعرِكَ ،

ثُمّ سَنَنْسى كثيرًا مِنَ الشُّعَراءِ

ولكنّنا سوف نَذْكُرُ قلبَكَ دومًا 

ونَعلَمُ أَنّ القصائدَ

–تلكَ الّتي سوف نَكْتُبُ– أَجْمَلُ

إذْ كنتَ أَنتَ

هنالكَ ، في أَوّلِ الشِّعرِ ، مَطلَعَها

.

.

.

    *     *     *     

"*" هو صديقي الشاعر أحمد الخطيب.

"*" أُشير إلى قول سويد بن كراع العكلي:

أَبيتُ بأبواب القوافي، كأنّما

             أُصادي بها سِربًا من الوَحشِ نُزَّعا !

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016