(1)
وجوهٌ فارغة تَعبرُ عينيك الناصعتين.
لا صوت يُطلقُ الوشوشات العالقة بين أذنيك
والذهول المأهول بالسكون.
يغمرُ الوجه المنحسر إلى رقّته.
فما من شيءٍ أعمقُ من العيون المفتوحةِ بشساعتها على ما لم تعد تراه.
كالنظرة الأخيرة للرحيل…
كالوجع المنسدل خارج الجسد… في العروق الشفيفة لتورق الألم كظلٍ ثقيل
كالنبض المتعثرِ على شاشة الموت، حيثُ العزلة تُعقِّمُ الغياب…
ليتأرجح صوتهم كدويّ أخرس في الممرات
والعيونُ المنتظرة…. تعبرها الأطياف كبالونات بيضاء.
أيُّ حِسٍ للدهشةِ المتجلية بالهروب؟ كيف يُحضَرُ الشيءُ بنقيضهِ.؟
أخذه إلى منتهى الحسية لإفراغه من الانفعال.
انتشالُ الجسدِ من العلامةِ، وتركه يزدادُ شُحةً كأصداغٍ يُبرزها
فقرها، حتى لا يحيل -ما تبقى- سوى إلى كنهه الفارغ.
أن تجعل الإحالة مُعطلة. فيكُفُّ الجسدُ عن التوسط بين الشيء والمعنى.
أن تبقى مشدوها كأصابع نحيلة، تستحيلُ باليبوسة إلى خيالٍ رقيق لليد.
(2)
في الزنزانةِ، يتخثّرُ نحيبُ الآباء بالصمت. لا شيء يواري الخفق الرخو
لشفتيه… تعال إليّ.
يدلِفُ الحُلمُ صورة البيت…
ترتجف أظافره المُكشِّطة للحائط بأحرفٍ ناقصة.
لأيام تأبى القياس، تَعلقُ عيناه في السقف الذي تتراءى السماءُ فيه،
بالأثقال الرطبة المُبقعة لنفثاتٍ راكمها المنسيون هنا. فاقِدوا الحيلة أمام الندم.
يعومُ في الصمت وجهُ طفلٍ بشوش. فيتقشرُ القلبُ كلحاءِ شجر يابس.
في الزنزانةِ، الموتُ هو الزمن.
يَحتقن وجه الأبِ بكسر الوقت… عبوره المُعشّقُ بالثغرات
ينكمشُ بقلبه على وجه طفله ليغلبَ الموت.
تعال… ليس هناك صوت أثقل من النداء الذي يحرسُه نبضك… الـ دُم،حصى،
دُم، حصى.
هكذا، يتدلى القلبُ المحشو بالخربشات.
(3)
متسمرًا أمام عصفورٍ يجاري بمنقاره إحدى الرصاصات
أمام غمامٍ رفيع، يعبرُ بقايا الشرفة
كقَشٍّ يَذرّهُ الحقلُ خلف ظلالٍ سكنته
أغمض عينيك ليختفي الخراب
مرِّر على جفنيك ضفيرتها المحنطة في قلبك، لترى…
الهمهمات القديمة للأصدقاء تعود
تبثّ الخطوات كحُلمٍ في البيوت المهجورة،
في الركام الملتوي بالذكريات… والأنين العالق في الشقوق كترانيم
الرعاة
في الرفات المنسي لعيونٍ تأمّلت طويلا طَرقَ المنقذين. تأمّلت… حتى
غلبها الغبار.
لم يتبق غير الكسور لردم الفراغ المترامي للبيت.
كل الظلال المتبقية مهشمة…
فالموتى والمهاجرون يطوفون العيون الغائرة للمخذولين بالبقاء.
والضوءُ… يجثمُ ثقيلا في الدرب المشغول بالعجاج وحده.
(4)
متسمرًا أمام الجرو الذي آوتني عيونه الرحبة، كحقلٍ للبسمة الأعمق في
خطوط وجهينا، ابني وأنا.
أيّ جواب لديك، لالتفاتة جروٍ مكوّر ككمشة قطن، يأتيك مُعتقدا أن
ذراعك وسادة.
وإذ يتكئ على رائحتك لينام، تغدو لرائحتك وجود. فيلدُ منك بعضكَ
المنسي.
هذه الهبة العصيةُ على المبادلة.
قلبه المنبسطُ كخضرةِ نباتٍ بري، يجعلُ خطوكَ وثبًا
أقدامك الراقصة بحبٍ لا تحمله الكلمات.
أيُّ جَذبٍ يأخذكَ قلبه إليه…
انتظاره صباحا لرمشة منك.
أن تفتح عينيك على عينيه… لتغمركما الرفقةُ كالضوء المندثر في السنابل
الصفراء.
(5)
النهر المسكون بالحرائش… بضفته الطريةُ للخطوات
بالأصوات التي تنتظرني في أعماقه…
“م.م”(1) يتراءى في الفقاعات بأذرعه الممتدة… أسقط إلي… أنا بيتك.
(6)
البهجةُ كتابُ فارغ…
لا شيء يحملها في القلب الثملِ باللهفةِ
إذ تكون، يغدو الجسدُ بخارا
فالكلام هو حاشيتها
هكذا…
إذ ينادي (مالفا) … بابا أنا عُدت.
يتموجُ كلُّ ما في الحسِ… بالرقص.
نزوى
إرسال تعليق