-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

في التقاطع بين الحلم والواقع / في قصيدة حتى لا أموت للشاعرة التونسية منيه جلال / بقلم الناقدة الدكتورة مفيدة الجلاصي


- تركيب العنوان ومعناه:

حتى لا أموت : مركب حرفي بالجر

حتى :حرف جر بمعنى التعليل أفاد الغاية (وقد يفيد في مواطن أخرى معنى الانتهاء عند الغاية الزمانية أو المكانية وقد يكون حرف استئناف).

لا أموت : مجرور ورد مركبا فعليا تكون من "لا" النافية للفعل في الزمن المستقبل وهو "الموت " ورد في المضارع المنصوب المسند إلى المتكلم "أنا" الذي قد يكون الشاعرة

التي تتكلم لتبرر أفعالا أو أقوالا أو أحوالا ربما قد أساء البعض فهمها فوجهوا إليها لوما لذا وجدت نفسها مضطرة اضطرارا لذلك التبرير "حتى لا تموت" وبمعنى أدق حتى لا تكون نهايتها أو هلاكها لذلك قدمت سرديتها الشعرية لتخبرنا بكل ما يعتمل في داخلها علنا نجد لها عذرا

ويبقى الأمر مرتهنا برصد حركة القصيدة في مستوى الخطاب الذي اعتمدته الشاعرة ومعرفة المخاطب الذي،يمثل قطب هذا الخطاب ومداره باعتباره المتقبل

إنه عنوان مربك للقارئ يجعله يتساءل لماذا تأخذنا الشاعرة إلى هذه النهاية المأساوية وهي الخوف من الموت؟ هل هو التشويق لمتابعة كل الحكاية من بدايتها؟

كل ذلك كان حافزا لرصد تفاصيل السردية الشعرية لشاعرتنا "منية جلال".

-التقاطع بين الحلم والواقع "في قصيدة " حتى لا أموت"

يرتبط عنصر الحقيقة بالواقع في علاقتهما بالحواس وكل ما هو مادي محسوس وأما الخيال فيرتبط بالحلم وكلاهما يأخذنا إلى كل ما هو نفسي روحي وجداني وبين هذين العالمين المتقابلين تجنح بنا الشاعرة في عالمها بكل عناصره التي بدت بسماتها العجائبية والغرائبية ويتأكد لنا ذلك منذ مطلع القصيدة الذي كان بأسلوب حكائي سردي في قولها :

يحدث أن أقيل عقلي .....أفك جدائل الوقت

اعتلي براق الحلم .....أسري إلى ما فوق حلمي

في هذا المقطع الأول نجد الشاعرة تسند لنفسها أفعالا وصفات تتجاوز الطاقة والقدرات الإنسانية تجعلنا نتساءل ،ما هي أدواتها ووسائلها الخارقة للعادة التي بها ستحقق كل ما قالته؟ ( إقالة العقل /فك جدائل الوقت /اعتلاء براق الحلم /الإسراء إلى ما فوق الحلم(.

ويأتي المقطع الثاني لنتفاجأ باسم الإشارة للمكان للبعيد "هناك" الذي استعملته الشاعرة لتحدد عالمها الجديد أسرت إليه عبر اعتلائها براق الحلم وهنا لا بد من أن نستحضر مباشرة ليلة الإسراء والمعراج بكل دلالاتها الدينية والعقائدية وما توحي به من أبعاد روحية ،لذلك حددت معالمه حيث كما قالت :" لا موطئ لقدم بشر" لتتراجع مستثنية بشرا واحدا في قولها : لا هناك إلا أنت /لا موطن إلا صدرك.

وتستمر في إبراز ملامح هذا العالم العجيب والغريب حيث، قالت :

يستقبلنا القمر "على مقام النهاوند"و النهاوند مقام موسيقي يعبر، عن صوت يصعد من أعماق نفس حزينة تحدث عنه " جبران خليل جبران" فقال :"نغم متجسم من مهجور يسأل عطفا على رمقه قبل أن يضنيه البعاد زفرات يائس أنشأتها المرارة وتنهدات قانط بثتها لوعة من أتلفه الصبر، والتجلد... وفي النهاوند معنى بل معان وأسرار يفهمها القلب وتفقهها النفس" وتلك هي حال الشاعرة التي تسعى إلى الهروب من عالم البشر، لتعبر عن كل ما يختلج داخلها لترسم أحلامها بكل ما تمتلكه من حساسية المشاعر التي تجتاحها لذلك نجدها تطلق العنان لعواطفها الجياشة لتعبر عن عدم رضاها بالواقع المادي المحسوس لتقيل عقلها وهنا يتأكد لدينا الطابع الرومانسي للقصيدة لأن الرومانسية قامت على الثورة على الكلاسيكية المعتمدة على العقل ولذلك نادى كولريدج Coleridge عام 1801 بأن الحقيقة العميقة لا يصل إليها إلا ذو العاطفة العميقة وكل حقيقة نوع من الوحي كما يرى"توفاليس" ان الشعر في تعبيره عن الخصائص الفردية يتجاوز المعلوم إلى المجهول والواضح إلى المستتر والثابت إلى العرضي فهو ينفذ إلى تمثيل ما لا يستطاع تمثيله وإلى رؤية ما لا يرى "ونرى الشاعرة في هذا المقطع وهي ترسم مشهدا غاية في الجمال ،حيث لا بشر إلا النجوم تهنئها هي والحبيب بل إنها باتت تحفهما "لتشهد ليلة كألف ليلة" إنه بلا شك عرس اللقاء أو كما تعورف عليه ليلة العمر وهناك "تقام مواكب / الفوانيا والغاردينيا" وهي زهور باقات الزفاف كما عرفتها.

ويأتي المقطع الثالث لتؤكد لنا مرة أخرى باسم الإشارة "هناك" أنها ابتعدت عن دنيا البشر حيث كما تقول "تذيب ذاكرة السواد /في حرير بياضنا" انه التطهر من أدران الماضي الذي نعتته بالأمس، لترسم غدها الآتي ، أنها ذاتها التي تنشد عالما مثاليا ،بعد أن اتسعت الهوة بينها وبين الواقع المرير عالما سحري المعالم فاتنا ،بل انه الجمال بعينه بكل ما يحمل هذا الجمال من معان ،لا يمكن أن يحدها منطق أو قانون عام يقيد خيالها الخلاق لأنها تسعى إلى تحقيق حلم سكن مخيلتها، شانها شأن الرومانسيين الذين اتخذوا الأحلام مشغلا ،ولهم فيه فلسفة أثمرت أدبا عكس تجاربهم النفسية العميقة ،فقد اعتدوا بها واعتبروها قوة عجيبة فيها ثنائية أنفسهم ،إذ اعتبروها بمثابة الحوار بين الإنسان وذاته فهو المتكلم والسامع معا، لذلك كانت الأحلام عندهم بمثابة مملكة مجهولة المعالم ،ولكن منشأها في النفس،بل منها نعلم ما بأنفسنا وندرك خبايا أرواحنا وما يعتمل فيها، من أحاسيس ومشاعر أو خواطر وأفكار ومن هنا لم تحد شاعرتنا كما بدا لنا عن هذه المعاني ،لتعبر عن مجموعة من الآمال في عالمها الحالم لأنها ترجو كما تقول :

تتفجر أناملك ملء، زلال

انسكب حبا بخضرة عيني .... بخمر فمي

وتبدو شاعرتنا الحالمة متطلبة جدا وهي التي،تحذق إغراء الحبيب لإقناعه بأن يكون معها في عالمها العجيب الساحر فهناك كما قالت :

تينع شفتاك عناقيد لؤلؤ

بل أنها تأمره بأن يكون منها :

كما العقد من جيدي

كما خصري /كما نبضي / كما كلي

إنه السعي إلى أن يكونا معا كيانا واحدا ملتحما لا ينفصل فكلاهما سينبعث في الآخر انبعاثا أبديا ،غير أن الحكاية لم تنته ، إذ تتعكر الأجواء عندما يعود العقل ، فيفسد عليها سلامها كما تقول :

ويحدث أن يتسلل العقل ... إلى المقام

وتنقلب الأحوال حين يتدخل العقل :يأتينا كمارد " لأنه أتى في ظلة من مراسم البشر كما قالت:

فهو الذي يتسرب" على مضجع هوانا / يلقي أشواك حجاه /

وتوابيت السنين"

وهكذا يقضي العقل على مباهج كونها الذي معه "يخرس لون البياض /يضرم بيرق العنب /قبس، الدوالي،/ فينبت الرماد"

وهكذا يشب صراع عنيف بين العقل والعاطفة، نشدانا لعالم مثالي في منطقة الأحلام ،ينتهي برفض كل ما يعكر صفو الحياة الجديدة ،بعيدا عن البشر، لتكشف لنا الشاعرة عن مبتغاها، فتغير،اسم الإشارة للبعيد " هناك" إلى اسم إشارة للقريب "هنا" فتطلق صيحة الانتصار على كل العوائق ، وهي التي باتت تنعم بحلمها، وقد صار حقيقة تعيشها فتقول :

" لا هنا إلا ظلك يحترسني .....وحبك رنة ثالثة "

وتنغلق القصيدة بتصريح مباشر، للشاعرة التي بذلت قصارى جهدها كي تحقق هدفها في تشييد عالم جميل ،للهروب بالخيال من قيود العقل ، بعيدا عن ما يمكن أن يعيق مسيرتها نحو الحلم الذي رسمته، وذلك كما تقول:"حتى لا أموت / على غير ميعاد /.

ورغم هذا التصريح المباشر، لما تأمله، فإنها تنهي قصيدتها بنوع من الغموض الساكن بين الألفاظ ،فهي لا تبوح بكل شيء ،وتتركنا في حيرة تتلاعب بنا تساؤلات محورها" لماذا لم تكمل الشاعرة جملتها وتركت المعنى مجزوءا غير تام؟ إذ هي أردفت عنوان القصيدة وهو، مركب جزئي كما بينا " حتى لا أموت "، بمركب آخر هو أيضا مركب بالجر وظيفته حال" على غير ميعاد " ملتبسا بالزمان !! وإذا كل ما ورد قبل هذين التركيبين يمكن اعتباره النواة والأصل لهما في رأينا.

الخاتمة :

يمكن ان نخلص من تحليلنا للقصيدة إلى مجموعة من الاستنتاجات تتمثل في :

انها قصيدة ذات بعد رومانسي بامتياز، بسماتها الوجدانية والعافية فبدت موسومة بانا الشاعرة التي اختارت ان تعيش في زمانها ومكانها الذين اختارتهما ،وقد رسمتهما في بعدهما الذاتي والنفسي والعاطفي، بكل ما تمتلكه من حساسية العاشقة المتيمة في عالم بعيد عن البشر، لا يسع إلا حبيبن عاشقين ،إنه الحب الرومانسي الحالم، باغتنام سعادة الروح والقلب والنفس، باعتباره عاطفة من وحي الطبيعة، بعيدا عن زيف نظم المجتمع.

هكذا حلقت الشاعرة "منية جلال" بخيالها المجنح ،في عالم بنته من آمالها وأحلامها ،في خطاب ثنائي بين الأنا والأنت ،الذين شكّلا محورا لذلك الخطاب ،بما أنهما سيعمران ذلك الكون الذي شيدته من شذى الروح وشدوها، على مقام النهاوند.

فرحلت مع الصور في مشهدية مبهرة، بثراء المعجم اللغوي بقدرة جعلتها تطوع اللغة لما تريده من معان ودلالات، تجسد الطاقة الجمالية التعبيرية والأسلوبية، عبر الأسطر التي تفاوتت في درجة احتواء المعاني كما وكيفا ،لتنصب في النهاية في غاية أساسية وهي الهروب من الأوجاع ومشتقاتها ومسبباتها ،إلى عالم لا موطئ فيه لقدم بشر ،كل ذلك أوردته الشاعرة في أساليب مختلفة متسمة بنفحات تكاد تكون صوفية، لا سيما في المقطع الأول من القصيدة ،في بحثها عن الطريق إلى كونها الذي ستصل إليه باعتلاء براق الحلم، بعد أن تقيل العقل وهذا الكون في النهاية ما هو إلا كونها الشعري بكل فضاءاته الذاتية والموضوعية مشكلة تشكيلا واعيا ،من عناصر طبيعية وذاتية متصلة بالجسد بالأساس جعلتها متمازجة (الراحتين /الأنامل/ خضرة العين /

خمر فمي / تنبع شفتاك من لحظي / جيدي /خصري /نبضي(

تبقى القصيدة منفتحة على قراءات متعددة ،في مستوى التأويل للدلالات والمعاني، دون أن نغفل عن اللغة الشعرية ،بوصفها لغة تشكيلية إشارية لها رمزيتها ومجازيتها ،التي لا تتقيد بمدلولات محددة، وهنا يكون التأويل لإبراز ما في هذه القصيدة من عمق وتجليته بفك رموزه ،عسى أن نقربه من إدراك القارئ المتلقي،

(الدكتورة الناقدة مفيدة الجلاصي)

القصيدة :

حتّى لا أموت ... يَحْدُثُ أنْ أُقِيلَ عقلي

أَفُكّ جَدائلَ الوَقتِ .. أعْتَلي بُرَاقَ الحُلمِ

أَسْرِي إلى مافوق حُلْمي ...هناك ... لاَ مَوْطِئَ لِقَدَمِ بَشَرٍ

لاهناك إلاّ أنت ... لاَ مَوْطِنَ إلاّ صَدْرُكَ

يَسْتَقبلنا القمَرُ.... على مقام " النّهاوند"

تُهَنِّئُنا النّجوم... تَحُفُّنا لِتَشْهَد... ليلة كألف ليلة

على سُلّمِ " الدّو.. تُقامُ مَواكِبُ... الفوانيا" و "الغاردينيا"

هناك.. نُذيبُ ذاكرةَ السّوادِ... في حَريرِ بَياضِنا

نَغتسِلُ مِن أمْسِنا.. نَرسُمُ غَدَنا الآتي .. ٱمْنَحْني رَاحَتّيْك

ٱمْنَحْني رَاحَتّيْك... تتفجّرُ أنامِلُك ماء زلال

انْسَكِبْ حُبّا بِخُضرَةِ عَيْني.. بِخَمْرِ فَمي

تَيْنَعُ شَفتاك عَناقيدُ لؤلؤ.. كُن منّي

كما الكُحْلُ منْ لحظي ..كُن منّي

كما العِقْدُ منْ جيدي ... كما خَصْري ..كما نَبْضي ...كما كُلّي

ويَحْدُثُ أنْ يَتسلَّلَ العَقلُ ... إلى المقام ....يَأتينا كَمارِدٍ رَهيبٍ

في ظُلّةٍ منْ مَراسم البشر..عَلى مَضْجَعِ هَوانا

يُلْقي أشواك حِجاه .. وتوابيتّ السُّنن

يُخْرِسُ لون البياض ...يُضْرِمُ بَيْرَقَ العنب .. قَبَسَ الدّوالي

فَيَنبُتُ الرَّمادُ ... لاَ هُنا إلاّ ظِلّكَ يَحْتَرِسني

وَحُبّكَ رِئةٌ ثالثةٌ ... حتّى لا أموت .. على غَيْرِ مِيعادٍ

____________________

-الدكتورة الجلاصي شاعرة وكاتبة تونسية ، تحمل شهادة الدكتوراه في اللغة والآداب العربية بعنوان" الخطاب النقدي عند ميخائيل نعيمة" كما صدر لها ديوانان الأول بعنوان" نسيج الروح" سنة 2019 والثاني سنة 2021 بعنوان" ذكريات الزمن الآتي " عضو اتحاد الكتاب التونسيين ، تشارك باستمرار في أنشطة النوادي والجمعيات الأدبية والثقافية، والأماسي الشعرية ، كما كتبت تقديما لمجموعة من الإصدارات الشعرية والسردية .

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016