"
نصّه معرفي، مكثف، وجملته الشعرية رفيعة وإشارته الجمالية
باذخة المجاز والاستعارة، قناص للصور في تتابعها وسرديتها، يمزج السرد بالدراما،
فتتراقص الكلمات على مسرحه الإبداعي، وتتداخل الأنواع الكتابية في تجربته ليقدم مزيج
الكريستال الشعري بكل صفاء وبهاء". بهذا المقتبس من مقدمة الشاعر مراد
السوداني، صدر عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، ديوان الشاعر
الفلسطيني المبدع عبد الله عيسى، في جزأين.
ويضيف في مقدمته " عبد الله عيسى: كليم الطريق
والطريقة": يتلاعب بمفرداته بكل مُكنة تكشف عن غنى معجمه اللغوي، واشتقاقاته
الفارقة، مؤصلًا لتجربة شعرية تحفرها
خصوصية تستحق المتابعة، إذ فيها من التجديد الكثير، ومن ظاهر المعنى وباطن المجاز
ما يستوقف المتلقي طويلا".
ويؤكد السوداني بأن عبد الله يُصر بمسؤولية كبيرة على تقديم ما هو حقيقي وجدير بهذه الفلسطين، فكرة ومعنى لا يطال، وكل نص لا يرتقي إلى سدرة البلاد وسياقها النبوي وجملته الأوفى نص باهت يسقط في الرداءة نموذجًا سيئا.
من
جهته يقول الشاعر عبد الله عيسى في مقدمته لديوانه: " أنا شاعر أكتفي بالهواء
الذي تتنفسه قصيدتي بما ترى مما لا يُرى. أليس من حقي عليّ أن أسمي محوَهم لما أخط
من ماء الحياة لمن سوف يأتي بعدي حادثة قتل لي، مع سبق الإصرار والترصد، أنا شاعر
من حقي أن أدّعي أنني حي بعد عودتي فحسب،
لم يعد يكفي الهواء الآخر، الغريب، لم تعد بي طاقة أن ألمّ أشلائي من شتاتي. ليس
بي أي حول لأذكر، وأذكّر إن نفعت الذكرى، أني ما زلت هنا أروي لحلمي عودتي
هناك".
ويضيف
في مقدمته " حلم العودة.. العودة إلى حلم": " غير أن كتابي هذا، في
يومي هذا، وهو يدخل وطني هذا، يقصّ رؤاي على أخوتي والذئاب، ويروي سيرتي لمروّجي
الأخبار، ومقتنصي الشائعات ومدمني تعاطي محو آثاري، ويؤرّخ، مثلي، لبلاغة قتلاي،
ومكر أخي والذئب معه، وما سوّلت لي كفّ أعدائي ممتهني القتل المقدس بي، والآن في
يومي هذا، بمقدور كتابي هذا أن يشهد أنني قد عشت، وأن الموتى الذين أرادوني ميّتاً
في الرواية بينهم يعدّدون جنازاتهم، وأن يمارس هوايته المفضلة في إغاظتهم".
ضم
الجزء الأول من ديوان الشاعر عبد الله عيسى، الواقع في 437 صفحة، مجموعاته الشعرية:
" موتى يعدون الجنازة، آلاء، حبر سماءٍ
أولى، قيامة الأسوار، رعاة السماء رعاة
الدفلى"،
من
حدائق الجزء الأول:
" لا أزالُ
نسيت ُ شموعي على حائط ٍ يتأخّر ٌ في الليل ِ
حتى يضيء عصاك ِ الطويلة
َ
كي ، عبثاً ، تبحثي عن صدى اسمي الذي انهدّ في شفتيك
ِ
ردمت ُ خطاي َ ورائي
وبعثرت ُ كل ّ التفاصيل ِ بين أصابع ِ موتى بلا
ذاكرة ْ
وتماهيت ُ في الظل ّ
..
لكن ّ روحي أسيرة ُ نعناع ِ شايك ِ
أو ميرميّة ِ ضحكتك ِ العاطرة ْ
لا محالٌ إذن ْ
لا مُحال ُ"
فيما
ضم الجزء الثاني " 346" صفحة المجموعات الشعرية: " أخوتي يا أبي،
لا الذئب، وصايا فوزية الحسن العشر، هناك، حيث ظلال تئن".
ومن حدائقه:
" لا تكن ْمثلهم ْ
كن ْ ، كما أنت َ ، مثلك َ
لا شيء َ مثلك َ .
تكبر بين الحروب الصغيرة
فيما يشيخ دخان المنازل بين أصابعك َ الناحلات ،
وتبقى تلوّح ،
بين الحصى والمياه التي عبرت بين نهرين جفّا ،
لوجهك َ
حتى يعود إليك َ .
بما يشبه أن تكلّم َ
في غرف الميّتين التي بردت بعدما هدأ القصف، نفسك َ
منكسراً في الممرات ِ بين ظلال ِ الذين مضوا
دون أن يتركوا أثراً ما لأحفادهم
والمرايا التي ذبلت ْ بعدهم .
بالحقيقة كاملة ً دون سوءٍ
ونايك َ ذاك الذي صار مقبض َ سكين ِ جارتنا
في الحصار الأخير ،
بما يجعل الجند َ مرتبكين
وهم يكنسون الشوارع من جثث ٍ لم تعد ببنادق عمياء
تحرس تلك التماثيل ،
أعمى سراج سواك َ الذي في يديك َ
يراك ،على ما تبقى من الحائطين
وليس يدل ّ عليك َ .
ولا شيء قبلك َ
كن ، مثلما أنت ، مثلك َ
تشقى
لحزن الحلازين في باطن الأرض
حين يمرّ الجنود ثقيلين بين الجنازات ،
للماء في البئر مذ هدموا البيت ,
للحجر المنزوي في الجبال الوحيدة
منذ أقام على جنبات
أسرّتنا الغرباء ،
بخيبة عاشقة
لم تجد ظلها في مرايا
الحبيب الذي لم يعد ْ من وراء
التلال ِ ،
بما ليس يؤنس ُ في الغابة ِالوعل َ ،
والغجرَ الوافدين إلى غدهم في خيام الرحيل ِ.
كأنك َ لم ترْوِ إلا ليُبصرك َ الآخرون َ
ولا شيء بعدك َ يشهد ُ أنك َ قد عشت َ إلا خطاياك َ
في سِيَرِ
العابرين".
إرسال تعليق