-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

تعدد المهارات الشعرية في ديوان أنا سيد المعنى / الناقد رائد محمد الحواري

ناصر


تعدد المهارات الشعرية  في ديوان

"أنا سيد المعنى" لناصر الشاويش

 

الشعر لا يأتي إلا من شاعر، والشاعر هو أكثر إحساسا ورهفه ومقدرة على التعبير عما يريد/يشعر به، كما أنه حامل هموم الأمة ورافع رايتها، مجسدا آمالها ومعبرا عن روحها في الحياة، هذا هو الشاعر، من هنا ليس لأي شخص يمكن أن يكون شاعرا، وأن يأتينا ديوان من خلف القضبان والجدران ورقابة السجان، ما هو إلا تأكيدا على الروح الأمة في الحياة، فالشاعر ناصر الشاويش بديوانه "أنا سيد المعنى" يعطينا نموذجا على مواجهة التحديات وممارسة الحياة بشكل متألق، ففي هذا المنجز الشعري نجد مجموعة قضايا، لكن الأهم هو الطريقة التي قدمت بها.

 من هنا سنحاول التوقف عند ما جاء في الديوان، نبدأ من قصيدة  العنوان "أنا سيد المعنى" الذي يعطي في الشاعر نفسه صفات  استثنائية، فهو يحمل رسالة لنا، وللآخرين، وعلينا الاطلاع عليها والتوقف عند ما جاء فيها، يقول في قصيدة العنوان:

"سأسكت الوجع الدفين بداخلي

وأقشر الأحزان فوق دفاتري

وفوق صمتي وانفعال

هذه نهاياتي وبدء بدايتي

هذه بداياتي وبدء نهايتي

لا شيء يدركني وأدركه هنا

آفاق مجهول يمد مخلبا مفتوحة

لتساؤلات الخلق

أو ستر الوجود أو اتصالي بالوجود

لكي أبالي بالوجود بلا اختلال

هل يمتلك مثلي الوجود الفكر حتى أمتلك نفسي

فأكتشف حكمة الأسرار في أضدادنا

أو يكتشف عقلي تسلله إلى ماهية الأشياء

يدركها، فأدركها

فندرك حكمة المعنى وراء وجودنا الخال

من المعنى

وهذا ذا أنا ذا ... أستنبط الأشياء في لغة الطيور

وأستدل على مجاهل الحياة بحشرجات الموت

هذي علتي، وبعلتي أبدي انشغالي

ولذا هنا أنا لا أنا حتى أعرف حالتي

وأبلغ لذة المعنى

وأبلغ لذة المطلق" ص 11و12، 

بداية  سنتوقف  عن الألفاظ المكررة والمتعلقة بذات الشاعر والتي نجدها في: "بدايتي، نهايتي، أنا، يدركني/أدركه، فأكتشف/يكتشف عقلي، وأبلغ" إذا ما توقفنا عند المعنى المجرد لهذه الألفاظ سنجده متعلق بالمعرفة، بالتفكير، بالبحث عن وفي الوجود، وهذا يشير إلى أن الألفاظ المجردة تخدم المعنى/الفكرة التي تحملها القصيدة، وإذا ما تقدمنا  من بقية الألفاظ: "لتساؤلات، أبالي بالوجود، الحكمة، عقلي، أستنبط، أستدل" سنجد ما يدعم هذا الاستنتاج، وهذا ما يجعلنا نقول أن هناك بعدا فلسفيا/وجوديا تحمله القصيدة.

لكن الفلسفة لها مصطلحاتها وقاموسها اللغوي، فأين هذه اللغة في القصيدة؟: "آفاق مجهولة، ندرك الحكمة الأسرار في أضدادنا، مجاهل الحياة، ماهية الأشياء" بهذا تكون القصيدة قد تجاوزت مفهوم الشعر (العادي) إلى مفهوم الشعر الفلسفي، لكن ما يميز هذه القصيدة أن فكرتها قدمت بلغة سهلة وسلسة، فهي تأخذ القارئ إلى أبعاد فكرية ووجودي دون أن يشعر أن هناك سراديب مجهولة أو كهوف مخيفة، وهذا يعود إلى أن الشاعر قدم الفلسفة من خلال استخدامه صيغة "أنا"، مما جعل فلسفته قريبة من الصوفية.

وهنا نستنتج أن صيغة الأنا تقرب القارئ من الشاعر ومما يطرحه، بحيث لا يشعر المتلقي أن هناك هوة/غربة تفصله عما يقدم له، وهذا يعود إلى دقة العبارات التي جاءت بصورة تكاملية: "آفاق مجهولة/ستر الوجود، يكتشف عقلي/فندرك حكمة المعنى/استنبط الأشياء/ استدل على المجاهل" فالبداية كانت (مجهولة): "مجهولة/ستر" لكن بعد استخدام العقل تم الوصول إلى المعرفة: "يكتشف/فندرك/استنبط" وهذا يأخذنا إلى أن هناك دعوة ـ غير مباشرة ـ من الشاعر لاستخدام العقل والتفكير، وعدم البقاء ساكنين/جامدين أمام ما هو مطرح من أفكار/من واقع/من مسلمات، وهذا يوصلنا إلى ما في القصيدة من مضامين، والتي تتمثل في القيام  بفعل متمرد، يتجاوز ما هو سائد/مقبول/عادي.

بهذا يكون الشاعر قد قدم قصيدة فلسفية ثورية، وهنا نطرح سؤال، هل الشعر هو فلسفية وأفكار فقط، أم أن هناك صورة شعرية ولغة لا بد أن تكون حاضرة في القصيدة؟.

وهنا نعود إلى ما جاء فيها من صورة ولغة شعرية: "وأقشر الأحزان فوق دفاتري/آفاق مجهول يمد مخلبا مفتوحة" نلاحظ أن الشاعر يستخدم عناصر الفرح/التخفيف "الكتابة التي نجدها في "دفاتري" والطبيعية التي نجدها في "آفاق، مخالب" بصورة سوداء قاسية، وهذا يعود إلى واقعه في الأسر، فهو الشاعر/المرهف/الحساس، وهو المفكر/الحكيم/العارف يقبع خلف الجدران، (ولا يستطيع) أن يظهر ما فيه من قدرات أدبية وفكرية، فواقعه انعكس على عناصر الفرح/التخفيف التي كان من المفترض أن تجعله ينطلق إلى وفي "آفاق" رحبه لا آفاق مجهولة ومخالب.

إذن الشاعر قدم/تحدث عن واقعه في الأسر بطريقة غير مباشرة، وهذا له علاقة بما تحمله القصيدة من أفكار، مضمون، فهي ليست قصيدة عادية، ولها بعدا فكريا/فلسفيا، وهذا يستدعي التأمل/التفكير بما جاء فيها، إن كان متعلق بذات الشاعر، أو بالأفكار التي يطرحها، فعندما يصل المتلقي إلى معاناة الشاعر الأسير من خلال الألفاظ القاسية المجردة، فهذا يشير إلى أن القصيدة متكاملة ما بين الشكل الذي قدمت فيه، وما بين الألفاظ التي استخدمتها، وما بين الأفكار/المضمون الذي تحمله.

من القصائد اللافتة في الديوان قصيدة "حرب الأمعاء الخاوية" يقول فيها:

"قذفت في وجه العدا أمعائي

حربا تقص مضاجع الأعداء

وجعلت أمعائي سلاح إرادتي

سيفيا يعيد كرامتي وإبائي

ورفضت خبز الذل حتى استرد

الحق بالأمعاء أو بالدماء

وحلفت في تمزيق أحشائي بأن

تركع لجوعي ثلة الغوغاء

أنا لن أسلم بأمهات كرامتي

لو مت أو نزفت هنا أحشائي

ولن أطأطئ هامتي متوسلا

ما عشت في الدنيا وطال بقائي

سأجوع، لا زادي طعامكم ولا

أمعاء متخمة بحسن غذاء

زادي الكرامة في الحياة ملؤها

حرية أو مرحبا بفنائي

هذا أوان ربيعنا وخريفكم

أوان مغربكم وشمس ضيائي" ص22و23، 

بداية نشير إلى أن هناك مجموعة ألفاظ متعلقة بالأعضاء داخل جسم الإنسان: "أمعائي/ بالأمعاء/أمعاء، أحشائي (مكررة)" وهذا له علاقة بمعركة الإضراب عن الطعام التي يخوضها الأسرى في سجون الاحتلال، من هنا سنجد أيضا ألفاظا متعلقة بحالة الطعام/الغذاء: "خبز، لجوعي/سأجوع، زادي (مكررة)، طعامكم، غذاء، متخمة" فالمتلقي يصل إلى الفكرة الإضراب عن الطعام من  خلال الألفاظ المجردة التي استخدمها الشاعر.   

 ونلاحظ تكرار لفظ "أمعائي/ بالأمعاء/أمعاء" أربع مرات، وهذا يستوجب التوقف عند  الطريقة التي جاء بها، ففي البداية اقرن بالشاعر مباشر/"أمعائي" ثم جاء معرفا/"بالأمعاء" وفي النهاية جاء بصورة عامة/"أمعاء"  ولهذا له علاقة بطبيعة (مسار الأحداث) في القصيدة، ففي البداية كانت المعركة في بدايتها والشاعر مندفع بقوة فيها، لهذا أستخدم "أمعائي"، وبعد أن (اندمج في المعركة، أصبحت الأمعاء، عنصر/سلاح شبه مستقل عن الشاعر، لكنه يعرفها وهو جزء منها، لهذا استخدم الأمعاء معرفة، لكن عندما نسب لها صفة قبيحة/"متخمة" جعلها منكرة، وكأنه بتنكيرها أراد زيادة قبحها، وبالتأكيد يمكننا أخذها إلى أصحاب الأمعاء المتخمة.

والجميل في القصيدة خاتمتها، فهي تعطينا صورة عن الأسير المنتصر: " زادي، الكرامة، الحياة، ملؤها، حرية، مرحبا، ربيعنا، شمس، ضيائي" وصورة عن الاحتلال المهزوم: "خريفكم، مغربكم" فإذا عدنا إلى عدد الألفاظ البيضاء المتعلقة بالشاعر الأسير سنجدها أكثر بكثير من تلك المتعلقة بالاحتلال، ونلاحظ أن اللفظين :"خريفكم، مغربكم" الأول متعلق بالزمان وبالمكان، فالزمان جاء على وتيرة فكرة البعل الفينيقية/الفلسطينية، والثاني/"غربتكم" متعلق بجهة المكان، وهي متماثلة مع فكرة الغربة  في المعتقد الصهيوني، وكأنه من خلال "خريفكم، مغربكم" يؤكد فلسطينيا وإسرائيليا حتمة انتهاء الاحتلال اندحاره.

الطرح السياسي

التقديم البسيط والأثر العميق

الشاعر يحمل هموم قومية عربية، وهو يعي أنه جزء من أمة من المفترض أن تكون معه وليس عليه، وأن لدى الأمة من الموارد والإمكانيات والقدرات ما يجعلها في طليعة الأمم، لكن الواقع الرسمي العربي حول ونقل هذه الطاقة والقوة والقدرات من عربية إلى الأعداء، يقدم لنا الشاعر هذا الوقع في قصيدة "أعواد الثقاب" والتي يقول فيها:

"...

يحلبون النفط للأعداء حتى آخر قطرات

مثل تدفق الثدي الغزير على الجرار

سنقول ما قاله الشهيد

وما يقول هو الصواب

إن تملكوا النفط في بلدانكم

فجيوبنا ملآى

بأعواد

الثقاب" ص51و52، 

الجميل في هذا المقطع البساطة والسهولة التي قدم بها، فرغم أننا لا نجد في "عود ثقاب"  الانفعال ولا الصوت العالي، فهو بسيط وصغير يمكن حمل مجموعة كبيرة من الأعواد براحة اليد، إلا أن حجم الدمار الذي سيحدث هائل: "النفط في بلدكم" وهذه الصورة تتماثل  بين حجم الفاعل/"أعواد ثقاب" وحجم المفعول به/"نفط بلادكم".

مخاطبة المحتل

الشاعر الذي يتعرض يوميا لأذية المحتل، ولا بد له من أن يحدثنا عن رؤيته لهذا المحتل، يقول في قصيدة "الحياة الفلسطينية":

"أيا أيها المحتل

يا وحشا يطارد في الحقول فراشة

فوق الأزهار رفرفت

إنا مللنا وجهك الدموي، صورتك القبيحة

فارتحل" ص54، 

قباحة المحتل تكمن في حجمه الضخم/"وحشيا" وفي فعله "يطارد، وفي فارق القوة بينه وبين ال"فراشة"، وفي تخريبه لجمال المكان/الأزهار، من هنا كان لا بد من وصفه/مخاطبته بأكثر شكل، فكان "الدموي، القبيحة، فارتحل".

المكان و الأسطورة

غالبا ما يتم ذكر المكان في الأدب الفلسطيني، فهناك علاقة تماهي بين الفلسطيني والمكان، من هنا نجد الشاعر "ناصر الشاويش" يلتحم مع بلدته "قنير" في قصيدة "ذاكرة البنفسج":

"قنير قوقعة المحار

هي خطوة من عمرنا

ويمر هذا الليل يا قنير قومي

من رمادك

قد قام الهجر بين ضلوعنا ستين موتا،

فاشعلي الذكرى رسوما يحتضنها

الليل في وجع

الجدار

و لتخرجي من ضلع نكبتنا

و ليل لجوئنا

واتلي علينا ما تيسر من نشيد السنديان

وهيئي لرجوعنا عباد شمسك في

طقوس

الانتصار" ص91، 

نلاحظ أن الشاعر يخاطب "قنير" كشخص مقدس، ففي البادية يقدسها ويتغنى بها: "قنير قوقعة المحار" ثم يدعوها كما دعا الفينيقي/السوري القديم عشتار لتنهض وتعيد الحياة للأرض وللإنسان: " قومي من رمادك/فاشعلي الذكرى/ولتخرجي من ضلع نكبتنا/واتلي علينا ما تيسر من نشيد/وهيئي لرجوعنا عباد شمسك" فهنا يمكننا إيجاد صفات وخصائص عشتار، وعندما  نسبها الشاعر "لقنير" أراد أن يعطيها صفة القدسية، واللافت أن الشاعر يستخدم عين الرقم ـ ستين ـ الذي جاء في ملحمة عشتار: "أطلق ضد عشتار ستين علة" السواح مغامرة العقل الأولى ص267، وكما نجد تماثل غياب "قنير" على الشاعر بحالة الناس عند غياب عشتار: "أضجع الرجل وحيدا في غرفته، ونامت المرأة على جنبها وحيدة" السواح ص268، فحالة الجذب والقحت التي عمت الطبيعة والناس في عياب عشتار تتماثل مع  غياب "قنير عن الشاعر، لهذا نجده يستعين بها لتعيد الحياة بيرقها وبهجتها، فبدون "قنير/عشتار" يعم الظلام والحل اليباب.

الديوان صادر عام 2022.   

     

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016