اللغة الشعرية وثيمات السرد في نصوص "ابن السماء" لسمير الجندي
الكاتب والناقد/ ناهـض زقـوت
يؤكد علماء اللغة أن اللغة، أي لغة، هي مجموعة من الرموز والاشارات، وهذه الرموز لا يمكن أن تفهم إلا ضمن السياقي الثقافي – الاجتماعي بين المرسل والمتلقي، بمعنى أن اللغة عبر رموزها تحمل رسالة، تحددها البيئة الثقافية – الاجتماعية التي يعيش بين جنباتها المرسل والمتلقي.
يأتي كتاب "ابن السماء" للكاتب سمير الجندي عملاً جديداً يضيف به إلى حصيلته الفكرية والأدبية، رسمه بلوحات غنية بكلماتها المعبرة من خلال نصوص نثرية تميزت بلغتها العميقة وشاعريتها العالية. الكاتب من مواليد القدس وصاحب دار الجندي للنشر، تلقى دراسته في مدارس القدس، وحصل على دبلوم تربية وبكالوريوس أدب عربي، كما حصل على ماجستير ودكتوراه في الأدب والنقد الحديث. يعمل محاضراً بجامعة القدس. يكتب القصة القصيرة والرواية والمقالة الأدبية والنقدية. ومن أعماله: (الطوفان – قصص 2006)، و(نبضات – قصص 2008)، و(خلود – رواية 2009)، و(باب العامود – قصص 2011)، و(درج الطابونة – قصص 2012)، و(حوش الشاي – قصص 2013)، و(حواء في دبي – رواية 2014)، و(فنتازيا – رواية 2016)، و(مناخ العشق – رواية 2018)، و(فتى المدينة – رواية 2020).
تسعون نصاً وما يزيد ضمتها المجموعة التي جاءت في (183) صفحة تتراوح في طولها بين الصفحتين والصفحة، ومن منشورات دار الجندي للنشر بالقدس 2021، ورغم بنائها السردي القائم على ضمير الأنا المتكلم، الذي يتجلى في الذات الكاتبة، إلا أن اللغة كانت تحتل البطولة المطلقة الحافلة بالدلالات والتعبيرات المعبرة عن الواقع، أي أنها نصوص واقعية أداتها اللغة. ولكل نص من نصوص المجموعة ثيمة دلالية مهيمنة على السرد، تلك الثيمات هي التي تمنح القارئ تشكيل رؤية كلية للنصوص. فثيمات السرد هي الدلالات المعبرة التي يشكلها الكاتب في اللاوعي نتيجة علاقته بالمكان أو الواقع الاجتماعي، ومن ثم يعيد انتاجها قصة أو رواية أو نصوص أو قصيدة شعرية، وحينما تخرج هذه الدلالات من اللاوعي إلى الوعي تصبح وجهة نظر الكاتب لواقعه أو أداة الكاتب في التعبير عن واقعه.
توزعت ثيمات السرد على عتبات متباينة، هي عناوين النصوص، ولكن لم تكن كل النصوص سردية واحدة، بل سرديات متعددة برؤى متباينة يجمعها المكان والسارد، ورغم ذلك ثمة تجانس بين جميع النصوص، كلها تدور في فلك واحد من المشاعر والحالة النفسية التي يعيشها الكاتب، وهذا ما يؤكد صدقها، فهي ليست مجموعة نصوص متناقضة، بل مواضيع يسربلها الحزن العميق في واقع صاخب، فكل نص يحمل حزنه بين أحرفه.
جاء عنوان النصوص (ابن السماء) متقارباً مع سياق لغة الحكي وتأمل الذكريات والأحداث والمواقف الشخصية، أعني أنه يتأمل العام والمجرد من خلال الخاص والمشخص، وتضمن الكتاب سرديتين حملتاه العنوان دون السرديات الأخرى، مما يعطي دلالة على أهمية الرؤية التي يسعى الكاتب إلى ترسيخها لدى القارئ. ابن السماء هو "ابن الانسانية، ليس ابن أبيه وأمه" أن نبدأ معه منذ الصغر وهو طفل ملاك، نزرع فيه الحب والحنان ليصبح لديه القدرة في التحكم بالأشياء، أن ندربه على تمييز الأصوات لكي يصبح قادراً على التركيز والفهم، فيصبح الانسان الذي يسمو عن الصغائر، ويرتقي إلى الأعلى، ويبتعد عن البشر، مؤمن بربه وبشعبه، ومساحة العقل لديه أوسع من الآخرين، يحب النظام، وواسع الثقافة، فهذا الإنسان هو الذي يحب أن يراه وأن يكون. فما زال مؤمن بحكمة جده عن أهمية التعليم "أن يبني الإنسان نفسه بناء قوياً متيناً يستطيع أن يواجه العواصف مهما اشتدت، وحتى يكون ذو شأن في المجتمع، وساعداً قوياً في بناء الوطن".
يتناول الكاتب الواقع، فيحطم الجدران والأبواب وكل الصورة المألوفة، فهو يجتهد باللغة في تعديل الصورة وإعادة رسمها، لابتكار صور واستعارات وتشبيهات الجديدة، لهذا تحتاج قراءته إلى التركيز والتأني بين كلمة وأخرى، والتوقف والاستراحة والتفكر، ثم العودة بعزيمة لاختراق روح النصوص. وانطلاقاً من هذه الروية نجد أن النصوص تكتلت حول عناوين أكبر من عناوينها الأساسية ذات دلالات عميقة، فكانت كالتالي: القدس، كورونا، المعتقل، الشهداء، النضال، تغول الاحتلال، رحلات شخصية، وتجارب ذاتية، ومن خلالها يطرق كل الأبواب ويعالج كل القضايا بحب وشفافية وبأمل متجدد، ويضع النقاط على الحروف برؤية واعية مثقفة تحمل أعباء شعبها بكل صدق ومحبة، وتنثر الأمل في كل أنحاء الوطن.
إن الكاتب مؤمن بأهمية الكتابة ودورها وتأثيرها في المجتمع، يقول في نص "الفتى أكبر من هدف عسكري": أن تكون جندياً في عالم الثقافة فهذا أمر فيه عزة، فيه نشوة الكرامة، فيه ابداع المقاومة، فيه فعل نضالي على مستوى الجبهات جميعاً ... أن تكون كاتبا فقط، ولا يهمك أن تشارك قومك في ثغورهم، فستبقى منزوياً في قوقعتك، وحيداً لا صوت ولا لون ولا رائحة لك". انطلاقاً من هذه الرؤية كانت هذه النصوص المعبرة عن خلجات الكاتب لما يدور حوله.
يقدم القدس بعين خبير، ابن المدينة الذي يعرف مكوناتها المكانية والحياتية، كلوحات نابضة بالحياة حيث معالمها وشعابها ومحلاتها وخاناتها، ويعرف ساكنيها ودروبها رغم الغيم الساكن في أحشائها، ما زال الصبي الذي يمثل الأمل يعرف معنى المقاومة، ويرسم تفاصيل المكان من أسوار وأبواب وحارات ودروب الأزقة، ويحمل بين ضلوعه نبض الحياة الفلسطينية، وتجانس المكونات في تعانق ومحبة. يصف حركة الناس وهو جالس في مقهى أمام الشيخ لولو على كرسي من القش وطاولات من السيراميك دلالة على قدم المكان المحافظ على تراثه، فالقدس مدينة لا تشيخ، لكن أطفالها يشيخون في طفولتهم، ويكبرون سنين طويلة في يوم واحد، فهم الذين يدافعون علن المدينة، أما الجالسون على الكراسي تنحني قاماتهم. ومن القدس تكون نقطة الانطلاق للتحرير، وسوف يرحل الغزاة وتبقى عكا وحيفا ويافا والقدس، فلسطين ببحرها ونهرها ذراعان يحتضنان الكون، وذرات جسدها لا تفنى ولا تتآكل، فهنا كل الغايات تولد، وهنا كل الأحلام تلتقي، وغواية القدس ليست ضرباً من المغالاة.
ومع هذا الأمل النابض من خلف كل الصور التي يستدعيها للقدس، تبقى غصة النفس قائمة، حين ينظر للزمن الحالي للقدس، ويكتشف الخيبات والتقاعس في الدفاع عن القدس، فينتقد هذا الزمان بأنه زمن اللاكرامة، وأن النضال التي ساد في السبعينيات، بدأ يتلاشى مع طغيان كونداليزا رايس في بداية التسعينات، دلالة على الهيمنة الامريكية والخضوع لشروطها التي تستهدف ابن القدس، ابن السماء، فنحن أصبحنا في زمن الجاهل الذي أصبح مثل "برميل خلا من محتواه النفطي، فاستخدمه الأطفال طبلاً". ورغم سوداوية الواقع الحالي فقد "نمى قلب الفتى وصار قضية، وزرع الأمل بالحق، وأن فرسان الحق قادمون".
كانت القدس لديه لوحات بصرية – لغوية تحمل دلالات عميقة ورؤى تستشرف الواقع والمستقبل، تشعر بجمال اللغة ليس لأنها شاعرية بل لأنها منسابة كالماء الصافي نحو سيرة المكان بكل قداسة وشغف، وبكل إيمان بالحق الفلسطيني. تعطيك اللغة دلالاتها منفتحة على مساحات القدس لوحات تغوص في قلب المدينة النابض بالحياة في جمالياته الروحية والجسدية، تحكي ذكريات المكان، بكل ما فيه من أحداث ووقائع، فالقدس ليست مكاناً مقدساً وحسب أو مكان عيش سكانه، بل هي التاريخ والأرض والقداسة معاً، فالقدس لوحة رسمتها اللغة ونسجتها النصوص من مفردات وأجواء وخيوط ضوء عميقة، ينسجها الكاتب دون افتعال أو تكلف بروح مفعمة بالحب والأمل، وتغوص في التاريخ تستمد منه معالم ما زالت حاضرة وشاهدة على الوجود الحقيقي لأصل المكان.
كانت تجربة المعتقل وهي تجربة ذاتية محورها الكاتب نفسه، حملت نصوصاً عديدة ذات رؤى متعددة: فنجده في "عيون خلف القضبان" يعبر عن معاناة الأسير، وقدرته على تحقيق الحلم والأمل بالانتصار على السجان. وفي "ثلاثة عشر قمراً ونافذة صغيرة"، يبرز دور العملاء في زرع الفتن بين المعتقلين وخلق الخلافات بينهم. وفي "سجان من الفلاشا" يرسم لوحة السجان الذي يحاول أن يثبت ولائه للسلطات فيهين الأسرى، ويدعو بموت العرب، وحين حاول المعتقلون تأديبه يقول لهم أنه أثيوبي مسلم، مفارقة عميقة تعبر عن دلالات النسيج الاجتماعي في المجتمع الاسرائيلي، فلكي تثبت ولائك عليك بشتم العرب. كانت لوحة "معبار معتقل الرملة" من أقسى اللوحات لما حملته من قسوة الحياة على أهالي المعتقلين، فهذا الكاتب يصف معاناة والدته في زيارته وزيارة اخوانه المعتقلين "كنا أربعة من أبنائها في المعتقل، وكان كل واحد منا في سجن بعيد عن الأخر، أنا كنت في السبع، وسامي في عسقلان، وعزام رحمه الله في نفحة، ومازن في الدامون على جبل الكرمل في حيفا، كانت أمي تزورنا جميعاً ولم تتغيب عن أي واحد منا مطلقا"، وتزداد قسوة المشهد حينما نعرف أن الأم كفيفة. هذا هو الاحتلال وبشاعته الذي يرفض جمعهم في معتقل واحد لتسهيل زيارتهم على الأم. وفي "دكتور الغلابة" يتحدث عن الدكتور أمين الخطيب رحمه الله الذي التقاه في معتقل الرملة، ويحكي عن معالجته للمرضى مجاناً في عيادته بالقدس حتى أطلق عليه دكتور الغلابة، وفي المعتقل يعالج الرواي من الطفح الجلدي الذي أصبح منتشراً بين المعتقلين نتيجة عدم الرعاية واهتمام سلطات الاحتلال بالمعتقلين. تأخذ تجربة السجن أو المعتقل مساحة واسعة من ذكريات الكاتب، حيث يقلب صفحات الماضي بكل قسوتها وظلمتها، ورغم ذلك، يجعل الفلسطيني يعيش لحظات الأمل والترقب للخلاص من العذاب الذي يعانيه.
لم يسرد الكاتب الماضي أو الغوص في عمق التاريخ، بل تناول الحاضر مع جائحة كورونا وتأثيرات على الناس، وتداعياتها على المجتمع بشكل عام. حيث يرسم لوحات معبرة وذات دلالات لغوية تغوص في قلب المجتمع لتبرز التناقض القائم بين فئات هذا المجتمع، وسوء العلاقات بين الناس. في لوحة "البيع نقداً لمن يشاء وذمماً لمن يشاء" دعوة للشعور بآلام الآخرين، ففي زمن كورونا توقفت الأعمال، وركنت الناس في بيوتها، بعضهم شعر بالجوع، وأخرون شعروا بالتخمة، "أنام ملء جفني مستريح البال متخم، فالطعام وصل إلى أذني، ولا أعرف أن جاري المسكين لم يتناول أولاده الطعام منذ أسبوعين، فهو لا يعمل، والدكان ترفض مداينته بعد ثقل الدين عليه"، هنا تبرز قيمة الضمير الحي في مساعدة الجار المحتاج. ورغم صعوبة الحياة وقسوتها في ظل كورونا يطرح الكاتب حكمته العميقة "كورونا ليست أصعب من اختلال غاشم قاتل ناهب، كورونا وباء قاتل إذا لم نردعه بعزل أنفسنا عن مساره فقد ينتصر علينا".
المجموعة السردية غنية بالرؤى والدلالات، وتتابع الحياة بكل تقلباتها وتناقضاتها، دون أن تغفل حضور المهمش من مفردات داخل المكان والغامض والمستبهم في حركة الزمن، لتخلق في النهاية نصاً يضج بحركة الحياة. يرسم الكاتب صورة الحياة بجماليات لغوية مما يدل على قدرته وتمكنه من اللغة وأسلوبها الراقي في التعبير والوصف، والقدرة في التعبير عن عواطفه ومكنونات ذاته عن حب الفلسطيني الصادق الحقيقي لوطنه.
تتحرك المجموعة بكل لوحاتها ضمن أنساق دلالية يستحدثها الكاتب انطلاقاً من تشعبات مشاربه الثقافية، وإحالاته الرمزية المتعددة والغنية بمرجعيات، تتجاور فيها الأشكال والمعارف وتتجاوز نفسها أحياناً. فالحكاية حاضرة في نصوص سمير الجندي، لكنها تلبس لبوساً جديداً وأقنعة عميقة الدلالة، تستلزم التسلح بترسانة من الخلفيات والمرجعيات الثقافية الحياتية المتنوعة. هي إذن كتابة واعية بنفسها، تؤسس لاختيار جمالي وتقني مختلف، من خلال لغة شاعرية يتعانق فيها الحسي والمجرد، وهذه اللغة الدالة هي لغة المراوغة حيث تبدي أشياء وتوهم بوضوح الرؤية، ولكنها تنتهي بما يفيد الدهشة أو الحيرة أو التأويل.
إرسال تعليق