الأغاني الشعبية والأسطورة في رواية
"حنتش بنتش"
للروائي محمود عيسى موسى
ما يميز رواية "حنتش بنتش" تناولها لمجموعة كبيرة من الأغاني الشعبية، إن كانت للكبار أم للصغار، من هذه الأغاني: رن ..رن يا جرس حول واركب ع الفرس" ص116، فهذه الأغنية غنيناها ونحن صغار، كما غنينا: "سيف دين سب الدين، لحق أمه بالسكين، على بلاد فلسطين، فلسطين بلادنا واليهود كلابنا" ص137، أضافة إلى أغنية: "دربكة يا دربكة
راح جوزك ع مكة
جابلك طقم احرير
علكتيه بالأوضة
والأوضة ما الها مفتاح
والمفتاح عند الحداد
والحداد بده بيضة
والبضية تحت الجاجة
والجاجة بدها علفة
والعلفة بالطاحونة
والطاحونة امسكرة
فيها مية امعكرة
هون مقص وهون مقص
وهون عرايس بتنقص" ص187،
وأغنية: "بابور يا بابور
أجا خالي من استنبول
حكى لي حكي تركي
خلي عويناتي تبكي" ص195، وغيرها من الأغاني، كل هذا يجعل الرواية وثيقة تراثية للأغاني الشعبية، خاصة تلك التي غناها الصغار، ولم تقتصر الرواية على تناول ما سبق، بل نجدها تحفظ لنا بعض أغاني التراث المتعلق بالكبار مثل أغنية "توفيق النمري": "تحتك يا زيزفونة ما عينت المزيونة
كم مرة تغفى وتام وأقعدها ترد السلام" ص131، وإذا أضفنا إلى ما سبق وجود العديد من الكلمات الشعبية: "سرسب، طمل، الرصد، طرش، بتجعمص، بسترجي" كل هذا يجعل الرواية تأخذ بعد تراثيا، يضاف إلى البعد الفني لها.
الأسطورة
السوري/الفينيقي توحد مع الطبيعة، مع المكان بحيث كان سلوكه وثقافته وتفكيره مرتبط بالطبيعة، من هنا وجدنا آلهة الخصب "البعل/عشتار" وآلهة الموت "يم"، وآلهة مذكرة "البعل/حداد" وأخرى مؤنثة "عشتار/عناة" ولكلا منهما مهام وأدوار، فأهمية البعل/عشتار تكمن في إحداث الخصب على الأرض، وأكثر النسل للبشر، وعندما كانت يتأخذ المطر/ (احتباس البعل في العالم السفلي) كان الناس يلجؤون إلى أحدى النساء لتقوم بدور عشتار، للتضرع إلى (إيل) ليطلق سارح البعل المحبوس في العالم السفلي، فكان هذا الطقس السوري/الفينيقي يمارس منذ بداية الحضارة السورية ولغاية وقت قريب في بلادنا: "انحبس المطر، جفت حلوق الخلق، ذوت عروق الحبق واصفرت أوراقه وعزت الرائحة، ضج الخلق، لم يوفروا حيلة ولا وسيلة إلا وتوسلوا بها واحتالوا على أنفسهم ولم ينزل المطر.
اسم الحجة لايقة
يا حجة ما الناش غيرك، بدك تشلحي فستانك
أشلح فستاني عزا.. عزيين.. عزكنه.. يا عيب العيب، دورواع غيري.
الزرع يا حجة.. الضرع يا حجة
انتصبت الحجة لايقة بين أهل البلد كسنديانة خرساء وأخرست خجلها وشلحت فستانها قدام الله وخلق الله. لمع بياض جسدها كما يلمع الحليب أول ما يقطر من الضرع وكانت الدنيا طاهرة.
قلبت فستانها ووضعته فوق مركاس الحطب، خشخشت حزم الحطب في المركاس، تلت الحجة لايقة ما تحفظ من آيات قرآنية.. تلت وتلت..
اشتدت الضرع.. نزلت أول قطرة .. لمع الحليب.. لمع جسدها الطاهر .. انهمرت الدنيا مطرا.. وما زال الفستان مقلوبا على المركاس.
ما زال المطر ينهمر حتى تقوم الحجة لايقة وتقلب الفستان عن المركاس.
ينزل المطر وتجر الوديان وتغني الغنوات ويطلع الزرع ويدر الضرع." ص120، إذا عدنا إلى ملحمة السورية القديمة التي كتبت قبل الألف الأولى للميلاد، سنجد مشهد مماثل لهذا المقطع، وحتى أننا نجده في اللوحات التي رسمها السوري القديم لعشتار، والتي يظهر جمالها وتفاصيل الخصب في جسدها.
اللافت في المشهد السابق أن السارد ركز على عناصر الجمال (والقدسية) في جسد "الحجة لايقة" وتجاهل النواحي الغريزة/الجنسية،: "لمع بياض جسدها كما يلمع الحليب، لمع جسدها الطاهر" كما أنه ربط الخصب بالفرح: "ينزل المطر وتجر الوديان وتغني الغنوات ويطلع الزرع ويدر الضرع" وهذه إشارة إلى أن السوري/الفينيقي لا يسعى لملء بطنه واشباع فرجه، بقدر اهتمامه بالفرح والتعبير عنه من خلال القيام بطقوس الفرح/الخصب، فكان الغناء والرقص أحد مظاهر الاحتفال بعودة الخصب/عودة البعل إلى الحياة.
وإذا ما ربطنا هذه الأسطورة بما جاء من غناء شعبي، أمكننا الوصول إلى الجامع بين القديم/الأسطوري/الملحمي وبين الحاضر التراثي، فنحن امتداد لأجدادنا الذي سبقونا، لهذا وجدنا هذا الطقس الأسطوري حاضرا/ممارسا إلى وقت قريب.
إرسال تعليق