-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

في الدلالة الأنثروبولوجية للسيرة الذاتية: حاضر الكتابة أهم من الماضي الذي يجري استدعاؤه

حاضر الكتابة أهم من الماضي الذي يجري استدعاؤه

عبداللطيف الوراري

 
إذا كانت السيرة الذاتية بوصفها نوعا أدبيا، لم يُؤرخ لها إلا في نهاية القرن الثامن عشر للميلاد، فإن التأمل النظري والنقدي حول النوع أتى مُتأخرا بـ«نحو قرنين من الزمان» كما لاحظ جورج ماي (1920- 2003) من خلال منظورات ومقاربات متنوعة؛ تاريخية، فلسفية، نفسية، أدبية ولسانية. ثم سرعان ما تحولت المشكلات التي طرحتها السيرة الذاتية إلى «ساحة معركة» تتلاقى فيها عدة موضوعات أساسية للنقاش النظري الأدبي، اعتبارا لأمور شتى:

إن النوع السيرذاتي يمفصل العالم والأنا والنص؛
إنه على تماس مع التاريخ والسلطة والذات والتمثيل والإحالة؛
ثُم باعتبار اللغة التي يُكتب بها.
وداخل هذا النقاش، كان الخلاف في محاولات تعريف النوع أساسا يأتي من الجواب الذي أُعطي للسؤال التالي: هل يرجع الأدب الذاتي ليقين الموقف الحميمي، أم لشعرية الأنواع ووضعها اللساني والتداولي؟

الكتابة والوجود

تُمثل دراسة جورج غوسدورف (1912- 2000) المعنونة بـ«شروط السيرة الذاتية وحدودها» بمثابة الجهد الأول الأكثر عمقا وفهما، الذي بُذِل لاستقصاء معظم المظاهر الفلسفية والأدبية للنوع السيرذاتي. وقد نُشرت هذه الدراسة عام 1956، بل إن فيليب لوجون أدرجها في كتابه «السيرة الذاتية في فرنسا» (1971) وعليها أحال في أغلب البحوث واستشهد بها. لكن المفاهيم الأساسية المشكلة للدراسة، سيتم إعدادها بشكل أكثر تفصيلا في أهم عملي جورج غوسدورف وهما: «كتابات الذات» و«الأوتو- بيو-غرافيا» المنشوران عام 1991. وفيهما يسعى غوسدورف إلى الإجابة عن النظريات الأحدث مثل نظرية رولان بارث، ويبرز ما تشكل في عام 1956، بيد أن الجوهري الذي سلم به لم يتغير.
يصوغ غوسدورف بعض الشروط لهذا النوع من الكتابة: عندما يحكي مُؤلف السيرة الذاتية تاريخه الخاص، فإنه يستحيل أن يقدم صورة وفية عن ماضيه كما كان؛ لأن السيرة الذاتية – في نظره – تُبْنى وتفرض وحدة وانسجاما على متواليات حياته الماضية، فالقصد الجوهري من هذه الفعالية بأكملها هو أن تُقْدم على المعرفة بالذات، ويقوم الوعي داخلها بدور مركزي، بعد أن تتضمن السيرة الذاتية قراءة ثانية للتجربة المعيشية والحقيقية أكثر من الأولى، ثُم إن الوعي الذي يتأمل فيها يُغنيها ويضيف إليها، وهذا البحث عن الانسجام من جهة الوعي، يوحي بـ«حقيقة» الإنسان الذي يكتب بقدر ما هو يكشف عن بنية كينونته الخفية: «وهذه البنية الخفية هي بالنسبة إليه مفترضة، تتضمنُ كل معرفة ممكنة، أيا كان النظام الذي أتت فيه. من هنا، المكانة المركزية للسيرة الذاتية، وخصوصا في المجال الأدبي». ومن المهم أن نستنتج أن جورج غوسدورف، أحد مُنظري النوع الأوائل، ناقش هنا الدور الأبستمولوجي الأساسي في السيرة الذاتية، فيما كان الوضع الأدبي لهذا الشكل من الكتابة الذاتية غير معروف بصورة جلية إلا إلى وقت حديث.

إن تعريف السيرة الذاتية باعتبارها نصا كاشفا عن طوية المؤلف الداخلية الأكثر خفاء، سمح له أن يتجاوز مشكلة الحقيقة التاريخية للسيرة الذاتية، ويؤكد القيمة الأدبية للنص، وجدواها كذلك، وهما معا لا ترتبطان بالواقع التاريخي الذي تتأسس عليه، ولأن الانسجام يُفرض ابتداء من حاضر الكتابة، فالثغرات والتغيرات تظهر بشكل لا يمكن تحاشيه في ما يتم تذكره. لكن ذلك لا يهم، فما يهم هو القيمة الأدبية التي تشيدها الصورة التي يستخدمها المؤلف لتمثل العالم وتمثيله، لأن مثل هذه الصور تثبت الحقيقة الأخرى للإنسان. وثمة شيء آخر أهم من القيمة الأدبية، وهو الدلالة الأنثروبولوجية التي يقيم فيها جوهر السيرة الذاتية، ويمكن للنقد أن يعثر على هذه الدلالة، إذ «بدلا من إجراء التصويب المادي للحكي أو تسليط الضوء على قيمته الفنية، يجب بذل الجهد لاستخلاص الدلالة الحميمية والشخصية منه، باعتبارها رَمْزا بشكل من الأشكال، أو أمثولة، من أجل الوعي داخل بحثه عن حقيقته الخاصة». فالنتيجة المنطقية من هذا التعريف للسيرة الذاتية، هي أن حاضر الكتابة، أو اللحظة التي ينخرط فيها البحث عن وعي بمعرفة الذات، أهم من الماضي الذي يتم حكيه والإخبار به. يُتوسل بالماضي «من أجل الحاضر وفي الحاضر» وهو ما يترتب عليه القول إن الحقيقة التاريخية تقل أهميتها داخل السيرة الذاتية.

تدل كلمة (سيرة ذاتية) على كل كتابٍ عبّرَ فيه المؤلف عن حياته ومشاعره وأفكاره، ولا يبدو شكل الكتاب أكثر أهمية. وفي الاستعمال الراهن، تحيل كلمة (سيرة ذاتية) على خصائص محددة، فيما تحتفظ الصفة (سيرذاتي) بكل مرونتها.

فلسفة السيرة

سوف يُتمم غوسدورف، في كتابه « Auto-bio-graphie» (1991) تحديده لمجال السيرة الذاتية، حيث يقدم ما يمكن أن نُسميه أسسا فلسفية للكتابة السيرذاتية. وهو يُعلق على المصطلحات الثلاثة التي تُكون الاسم، يطرح غوسدورف بوضوح مختلف أبعاد هذا الشكل الخاص بالكتابة الذاتية:
– الذات (Auto) «إنما هي الهوية، أنا الواعية بنفسها» ومبدأ التجربة المستقلة. وهذا المُركّب تَطور ببطء داخل مسارٍ من الوجود المفرد والمستقل.
– الحياة (Bio) وهي تمثل على وجه التحديد الاستمرارية الحيوية لهذه الهوية، انتشارها التاريخي، التنوع الوجودي الذي يكتنف الموضوع الجوهري الباني للذات (l’auto) والأنا (le moi): بين الذات (auto) والحياة (bio) ترتسم العلاقة الصعبة للأنطولوجيا (علم الوجود) والفينومينولوجيا (الظاهراتية) للكائن ووجوده، للهوية والحياة.
– وأما الكتابة (La graphie) فهي تُدرج الوسيلة التقنية الخاصة بالكتابات الذاتية. الحياة الشخصية البسيطة في عيشها، حياة الذات Bios d’un Autos ، تستفيد من الولادة الجديدة عبر وساطة الكتابة.
يُـبين غوسدورف، انطلاقا من الوعي بالتساؤل المعاصر حول مفهوم الفرد والطبيعة المرجعية للنص السيرذاتي، أن «الفرد المحسوس» الذي تحيل عليه ذات النص السيرذاتي «من المستحيل أن يُطرح جانبا، حتى لو لم يكن من السهل تعريف وضعه». كما يُنبه إلى مظهر آخر يتعلق باللغة كوسيط للتمثل الذاتي، قائلا: «اللغة ليست تظاهرا بالهوية، بل هي اختلاس وتزييف؛ إنها تُموه أصالة كل الكلمات المقتبسة، كلمات العالم كُله. وفارق الزمن غير قابل للاختزال بفضل اللغة، التي هي نظام للتواصل، وهي الوجود الذي من المفروض أن يتكشف، والواقع، أصل المعنى وبؤرته، يتوارى خلف مواقف العلامات والرموز التي تدعي أنها تُمثله» ورغم هذه الحاجة إلى التوافق بين اللغة والهوية الفردية، يشرع غوسدورف في التأكيد على أن «الكتابات الذاتية تزعم رد الاعتبار للذات تبعا لطرائق الكتابة، وتجيز التوافق بين الذات والكتابة». وبما أنها بحثٌ شخصي عن معنى الحياة، فالسيرة الذاتية يمكنها، من خلال اللغة، أن تقوم به خير قيام، رغم كل شيء: «أنا أحكي بنفسي أسطورة حياتي. حصتي من العالم، حصتي من الحقيقة، وليس الحقيقة كما يفهمها الناس، بل حقيقتي حسب فهمي أنا».
ترتيبا على ما سبق، لا تبدو المقاربة الشكلانية للنوع السيرذاتي، حسب غوسدورف، مُلائمة؛ لأن السير الذاتية الحقيقية كانت تنبع من الوجود أكثر من البلاغة، ولذلك اقترح تعريفا مؤقتا للمصطلح الذي ينطوي على خطر عدم الدقة: «الاستخدام الخاص بالكتابة التي تعيد جمع كل الحالات، حيث تتخذ الذات الإنسانية نفسها موضوعا للنص الذي تكتبه».
وفي هذا المعنى الواسع، تدل كلمة (سيرة ذاتية) على كل كتابٍ عبّرَ فيه المؤلف عن حياته ومشاعره وأفكاره، ولا يبدو شكل الكتاب أكثر أهمية. وفي الاستعمال الراهن، تحيل كلمة (سيرة ذاتية) على خصائص محددة، فيما تحتفظ الصفة (سيرذاتي) بكل مرونتها.

إن النوع السيرذاتي هو نوع أدبي كغيره من الأنواع، لا أقل ولا أكثر. فالكاتب، أيا كان، وهو يخرق القواعد لا يمكن أن يدعي جهلها، ولا يمكن إلا أن يعتبر بها سواء في هذا المعنى أو ذاك، وعبر هذا الأسلوب أو ذاك.

فاعلية الأسلوب

فيما يتحدث معجم (روبير) عن مؤلف ذي بنية خاصة يؤدي وظيفة محددة، ويجر وراءه ماضيا ما، نجد في التعاريف الأحدث أن الحديث يجري عن شخص مجهول إلى حد ما، ولاسيما ممنْ شككوا في السيرة الذاتية باعتبارها نوعا، أو على الأقل وضعوها موضع سؤال، من أمثال جورج ماي الذي يعرف السيرة الذاتية بأنها «هي السيرة التي يكتبها هذا أو تلك ممنْ يكون موضوعا لها» دون أن يعتبرها «نوعا أدبيا بحق» أو هو «بصدد التكون أو أنه يوشك أن يتأسس». وقريبا من هذا التحديد، يرى جون ستاروبنسكي أن السيرة الذاتية هي «سيرة الشخص التي يعملها بنفسه» ويكشف أن الكتابة السيرذاتية تقتضي أولا تطابق السارد وبطل السرد (أي الشخصية الرئيسية) ثُم يقتضي «أن يوجد السرد لا الوصف». ومع ذلك، فهو يرفض الحديث عن النوع الأدبي عندما ينتفي وجود أسلوب أو شكل سيرذاتي. بالنسبة إلى ستاروبنسكي، فالأسلوب الذي يتبناه الكُتاب هو ظاهرة فردية أكثر منها أَنْواعية، بحيث أن «المرجع الذاتي الصريح للسرد» يوجد نظيره داخل «القيمة المرجعية الذاتية الضمنية: أسلوبي لا يحيل إلا عليّ أنا نفسي» أي الأسلوب الفردي تحديدا، فالسيرة الذاتية، كما يرى، ليست نوعا «مُقعدا له»: فهي تفترض شروطا مُعينة ممكنة التحقق، تظهر في المقام الأول كشروط أيديولوجية (أو ثقافية): أهمية التجربة الشخصية، والفرصة لأَنْ يعرض فيها العلاقة الصادقة مع الآخرين».
في إيجاز، فالرأي عنده أنه «لا يتعلق الأمر هنا، على وجه التحديد، بنوع أدبي». ويمكن لنا أن نستخلص من دراسته «الأسلوب السيرذاتي» نموذجا عاما ومُبسطا لما يمكن أن نسميه النوع السيرذاتي، مستخلصا أن «القيمة المرجعية الذاتية للأسلوب» تشير إلى لحظة الكتابة، إلى «الأنا» الراهن. ومن هنا، يمكن لهذه الإحالة الذاتية أن تبرز كعائقٍ للإمساك الوفي بالأحداث المنتهية وإعادة إنتاجها بِدقة.
وسواء تعلق الأمر بروسو أو بشاتوبريان، فغالبا ما اعتبر النقاد- باستقلالية عن مادية الوقائع المستدعاة – أن إتقان الأسلوب يجعل محتوى الحكي في موضع شك، ويصنع حاجزا بين حقيقة الماضي وحاضر الوضعية السردية. وفي الواقع، لا يمكن أن يُثار الماضي إلا انطلاقا من الحاضر: «حقيقة» الأيام الخوالي ليست كما هي بالنسبة إلى الوعي الذي لا يمكن، وهو يتجاوب مع صورتها اليوم، أن يتجنب فرض شكله عليها وأسلوبه. فأي سيرة ذاتية تتحددُ بالسرد الخالص، إنما هي – في نظره- «تأويل ذاتي».
إن حقيقة الذات (L’autos) في الوقائع المروية، تُبدع في الذهاب والإياب بين الماضي والحاضر، بين الواقعي وانعكاسه على وعي المؤلف الذي يكتب، عبر المتخيل، إسقاط الأنا والتجربة المعيشية. بيد أن المكون الثالث من المصطلح (la graphie) عند ستاروبنسكي، هو الذي يُشيد الجزء الجوهري؛ لأنه إذا كان «’محتوى’ السرد، رغم نذر الصدق (سيرة ذاتية) يمكن أن ينفلت وأن يضيع في التخييل» فإن الغرافيا تتجلى «كحامل للحقيقة الراهنة على الأقل» التي «تعرض صورة أصيلة عن شخصية ذلك الذي يمسك بالقلم ويكتب».
أما في ما يخص تنظيم الخطاب في النص السيرذاتي، يجد ستاروبنسكي في (اعترافات) أوغسطين خُطاطة ثلاثية الأبعاد: هناك الأنا الذي يتكلم، ويعتقد بأن له الإذن في الحديث لأن تاريخه الفردي مهم في حد ذاته بما يكفي، وهناك الـ(أنت) الذي يرسل إليه خطابه ويُعلل أقواله، ثُم هناك الـ(هو) القارئ، الذي يجب أن يستفيد من التجربة المعيشية. وهذه البنية السردية التي هي سمة خاصة بكل عمل سيرذاتي، بوسعها أن تفسر بداهة الحقيقة المطلقة وغير المشروطة، بله الخطابية من التلفظ والحافز الحتمي لكي تباشر السيرة الذاتية مُهمتها المجدية. لكن يستحيل أن نأخذ بمستويات التحقق النصي التي ميزها جان ماري شيفر بين الأنواع المرجعية والتخييلية، ولاسيما على المستويين الدلالي والتركيبي، باعتبارها مُحددات في التعيين الأنواعي للسيرة الذاتية، بخلاف المستوى التداولي. فعلى المستويين التركيبي والأسلوبي، لا تسمح أي سمة نحوية أو أسلوبية بتمييز السيرة الذاتية عن الأنواع الأخرى، فليس ثمة «أسلوب سيرذاتي» لأنه، كما يرى ستاروبنسكي، «هنا، أكثر منه في أي مكان آخر، سيكون الأسلوب هو صنيع الفرد». كذلك الأمر بالنسبة إلى التقنيات السردية، فالتدرج بين ابتذال «نهج السيرة» curriculum vitae و«الشعر الخالص» ليس امتيازا للسيرة الذاتية.
وفي الاتجاه ذاته، يتحدث دانيال بونيوس عن «مفارقة السيرة الذاتية»؛ بمعنى أنه لا يمكن لها «أن تكون نوعا من غير أن تُلْغى كما هي». وتترجم وجهة النظر هذه بعض الانزعاج الذي يشعر به أحيانا كتاب السيرة الذاتية أنفسهم: كيف يتم الانخراط في النوع – أو اللانوع – كما السيرة الذاتية، دون أن تفقد أصالتها، وهذه الأخيرة هي مبرر وجود الحكي السيرذاتي.
إن النوع السيرذاتي هو نوع أدبي كغيره من الأنواع، لا أقل ولا أكثر. فالكاتب، أيا كان، وهو يخرق القواعد لا يمكن أن يدعي جهلها، ولا يمكن إلا أن يعتبر بها سواء في هذا المعنى أو ذاك، وعبر هذا الأسلوب أو ذاك.
والدال ـ في هذا السياق- أن ترجمة (Autobiographie, Autobiography) بـ«سيرة ذاتية» تكشف عن خلل أبستمولوجي من الأول؛ فهي تلغي من حسابها فعل الكتابة عن الذات وعن الحياة الخاصة، وهذا الفعل هو أساسي في جوهر الدلالة الأنثروبولوجية للسيرة الذاتية، وبالتالي لا يمكن أن نخطئ الفوارق الدقيقة بين الاصطلاحين الغربي والعربي، بل إن ترجمة كتابات الذات بأسرها تطرح نفسها اليوم بقوة، على ضوء تطور هذه الكتابات في مقابل «تذبذب» الفكر الترجمي العربي وعدم تبينه جذورها الثقافية والفلسفية والنفسية.

شاعر وكاتب مغربي

المصدر: القدس العربي

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016