من دمشق بقلم محسن الرجب
كانت زيارتنا الأولى إلى
تلك الجنان الوارفة المخضلة في مدينة دوما من ريف دمشق، أذكر يومها أننا
استيقظنا باكرا واستقلّينا الحافلة حتى وصلنا منطقة باب مصلى .. حيث مجمع الباصات
لدرعا و ريفها، ثم ما لبثنا أن أخذنا سيارة أجرة صفراء و انطلقنا .
كان صباحا دمشقيا
بامتياز، عبق السكون والياسمين يمتزجان في جوٍّ مفعم بهناءة أغصان الوارفات
المتدلية على الجدران و عروش الياسمين الغافية تحت ظلالها وكأنها تدعوك
للضيافة.
عندما انتهينا من شارع
ابن عساكر .. و ابن عساكر هذا مؤرخ دمشقي له العديد من المؤلفات أهمها (( تاريخ
دمشق )) وصلنا ساحة أطلق عليها اسم (( دوار البيطرة ))، هنا تتفرع بك
السبل، فعلى اليمين شارع ينتهي في مطار دمشق، وأمامك آخر يأخذك من حيث النتيجة إلى
مجمع باصات العباسيين مرورا بالكثير من المناطق، وعلى اليسار يطل عليك سور دمشق
يتخلله باب صغير .. قيل أنه أصغر أبواب دمشق وهو باب كيسان في الطرف الجنوبي
الشرقي للمدينة القديمة بالقرب من دوار حسن الخراط، وأيضا يُذكر أنه سمي بكيسان
نسبة إلى كيسان مولى الخليفة معاوية ..
يرافقك السور على طول
امتداد الشارع، يعلو تارة و ينخفض أخرى .. سور يقرئك التاريخ ويبين لك عظمة الباني
و المبنى، صخور منحوتة بدقة متناهية ليست فقط لحماية المدينة من الغزاة وإنما أيضا
لبيان الروعة و الجمال في دقة الإتقان ..
و بعد القليل من الدقائق
تجد نفسك في حضرة باب كبير واسع يحيط به معبدان مسجد و كنيسة، ومن خلاله تستحضر
رجالا لا زالت آثارهم معلقة في ذاكرة الأيام ما بقيت .. إنه باب شرقي
وهو الباب الوحيد الذي لم يزل يحتفظ بطراز عمارته الروماني، و الذي ذُكر أن سيف
الله المسلول خالد ابن الوليد قد فتحه و دخل من خلاله عند فتح دمشق. تابعنا
المسير ولم يزل ذاك السور بقامته الفارهة يسير معنا إلى أن وصلنا ساحة أخرى، على
يسارها طريق يصل بك إلى باب آخر من الأبواب الكبيرة لسور دمشق، هو باب توما حيث
يقع في الجهة الشمالية الشرقية للمدينة القديمة قرب حي القصاع الذي امّحت معظم
آثاره، وهناك أبواب أخرى لتلك المدينة لم تزل حاضرة في بطون الكتب
والمسميات وعلى السن الدمشقيين في الأماكن التي سميت بأسمائها، مثل باب الجابية
وباب السلام وباب الفرج وباب الفراديس القريب جدا من حي العمارة، إضافة إلى ثلاثة
أبواب اندثرت آثارها تماما ولم يبق منها سوى الاسم فقط .. باب الجنيق
وباب النصر والباب الصغير .
رحلة قصيرة في أعماق
التاريخ والجمال كانت صحبتنا في ذاك الصباح الدمشقي الجميل مع السور الخرافي
للمدينة القديمة و أبوابها ..
وقبل الوصول إلى مجمع
الباصات مررنا بساحة العباسيين .. هذه الساحة التي كانت تفوح بأجمل الألحان و
الأغاريد على أفنان وارفاتها الخضراء و بحرتها التي ما كانت تكلّ و لا تملّ من
الرقص والغنج و الدل والتي غارت مع أشجارها فيما بعد و حلّ محلها جدران إسمنتية
مزركشة بألوان واهية لا طعم لها و لا روح.
بعد مجمع الباصات دخلنا
في شارع آخر كان على طرفه قناة ماء فأثارت اهتمامي، سألت السائق ما اسم هذه القناة
؟؟ قال : هذه قناة متفرعة من بردى واسمها تورا تمر في الكثير من الأحياء الشرقية
لدمشق قبل الوصول إلى غوطتها مثل في جوبر و عين ترما و سقبا و غيرها حتى تتلاشي في
بساتينها ....
الشارع الذي بدأنا به
برفقة تلك القناة كان شارعاً تحفه الأشجار من الجانبين، يكاد في بعض الانحناءات
منها يتظلل بتعانقها، وتسعدك تلك الطيور المختلفة الأنواع، وهي ترفّ بأجنحتها و
تنتقل من غصن إلى غصن ثم لا تلبث أن تهدهد على كتفي القناة .
دخلنا أكثر في ذاك
الشارع، وإذ بنا في جوٍّ يختلف تماما عن أجواء المدينة، وكأننا في عالم آخر .. حيث
رقة الجداول و الأعشاب الممتدة و الأشجار الوارفة بمختلف أنواعها و أصنافها، تشعر
وكأن الله سبحانه وتعالى قد أعلن القيامة وأرسلك إلى الجنة ... نعم إنه سحر الغوطة
التي تغنى بها الكثير من الشعراء، سحر الغوطة التي تحدث عنها الكثير من المستشرقين
والأدباء، سحر الغوطة التي وصفها المستقدمين والمتأخرين من النجباء، نعم إنها دمشق
وسورها وأبوابه و غوطتها ..
أعاد الله لنا دمشق مطرزة بياسمينها، مكللة بكبادها ولبلابها ونارنجها، معطرة بأغاريد حسانها و طيورها.
إرسال تعليق