قاتل الله الفقر ما أحقره، فالفقر مجرم يستحق أن
يسحق تحت الأقدام.
كان ذاك البسكليت اللعين الذي عرفناه بالاسم المأخوذ عن الإنجليزية. والذي يكنى بالعربية الدراجة الهوائية، كان بالنسبة لي حلم يقظة يشاركني كل لحظات الحياة.
كان لون تلك الدراجة أحمراً، وقامتها متوسطة تصلح في ذاك الزمان للأطفال مثلي، فقد كان من الصعب علي كطفل ركوب الدراجة الهوائية العالية, وكان هذا الارتفاع هو المناسب لابن العاشرة.
ومع أن لونها كان أحمراً, وأنا لم أكن يوماً إلا من عشاق الأسود والبني والرمادي والكحلي, ولم تكن الألوان الزاهية يوماً تثيرني، إلا أن تلك الدراجة الهوائية بلونها الأحمر المائل إلى البرتقالي, حفرت في دماغي, وباتت تشكل لي أمنية كنت أتمنى أن ترى النور.
كنت استأجر تلك الدراجة بخمسة فلسات أي "
تعريفة" كلما تيسر الأمر مقابل شوط لا يتعدى مئتي متراً ذهاباً وإياباً.
في تلك الفترة كبر الحلم وتحول إلى أمل بامتلاك تلك الدراجة اللعينة التي نجت من انتقامي منها في حينه بجعل عجلاتها تدور معظم الوقت لو توفر لي مبلغ خمسة دنانير لشرائها، لكن لم يكن ذلك ليكون لأن الخمسة دنانير في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات بالنسبة لي كانت تتكلم.
ما زال منظر تلك الدراجة ماثلاً في مخيلتي كأكبر مفجر للحظات السعادة في حينة لو تحقق، لكن قاتل الله الفقر ما ألعنه, ولو كان أبي من الأغنياء في تلك الفترة لامتلكتها, ولأصبح عندي دراجة هوائية, أركبها وقتما أشاء, وأعيرها لمن أشاء, لكن هيهات, فلم تكن الخمسة دنانير سهلة وخاصة أنها ستدفع دفعة واحدة, وسيكون دفعها كنوع من الترف, لكن ما كان يخفف عني أن أياِ من أطفال الحي لم يكن لديه دراجة.
لم أكن لأغفر لتلك الدراجة اللعينة التي أصبحت عظامها مكاحل. ما سببته لي من آلام، فانتقمت منها بطريقتي الخاصة، حيث قمت بمحاولة طمس ذكراها بشراء خمس من الدراجات الهوائية لأطفالي الخمس، دفعت ثمنها نقداً وعداً عندما تيسرت الأحوال، ولم أقبل أن يشترك كل اثنين بواحدة، إلا أن تلك الدراجة الحمراء اللعينة، ما زالت قادرة على اقتناص الفرص والحفر في الذاكرة, وما زالت ذكراها تنتصب لتعلن أنها وأن غاب جسدها ما زالت ذكراها على قد الحياة.
إرسال تعليق