ولد الشاعر «محمد
عفيفي مطر» بقرية «رملة الأنجب» محافظة المنوفية في عام 1935م، ورحل عن الدنيا في
شهر يونيو في عام 2010م. قال يومًا عن مولده: «شعرت أمي بآلام المخاض، كانت تسير
على شاطئ ترعة «النعناعية»، فدخلت إلى دغل من الحلفاء فيما يتحدر الدم على رجليها
وأخرجتني حيًّا؛ لذا عشت عمري أحب الأرض وفضاء الحقول». أمضى عمرًا في وطن من
الشدة، وعاش للشعر وبالشعر، وبذاكرة تختزن رؤى قادته ليكون واحدًا من صناع الحداثة
الشعرية الجديدة. يلوح من الغياب مثل طيف، وأنا أقف هناك بالقرب من سبيل «محمد
علي» القديم بالقرب من مسجد الناصر محمد بن قلاوون، أراه يجسد لي خمسين عامًا، زمن
صداقتنا، لا حد لإحصاء المعنى عبر أيامها، يجسد لى خمسين عامًا كاملة، الحضور
والغياب، الحركة والدوران في دنيا طالما كانت لا تعرف الرحمة. لا شيء يفنى، لا شيء
يضيع، وما جرى جرت به المقادير!! طرق معمدة بالدهشة، تنفتح على عوالم من غرائب
الشعر، تنبثق حيوات مجللة بالمدهش والمثير، تعكس وتجسد عوالم شديدة الخصوصية ميزت
قصيدة هذا الشاعر الاستثنائي.
«محمد عفيفي مطر» منذ مجمرة البدايات الأولى وهو يجوس عبر أقانيم
الليل والنهار، خارجًا من امتحان إلى امتحان جديد، مكتشفًا خصائصه التي شكلت عبر
قصيدته تلك الجدليات المتقابلة التي تنطوي على ذلك العمق شديد الخصوصية. من
البداية، وعبر فضاء قرية تعيش زمنها الخاص، بها مكمن السحر، كانت الخطوات الأولى
على أرض يدب على أديمها ذلك الجنس العجيب من البشر، خطوات تتميز بأوليات المعارف،
واكتساب الخبرة بأنصبة المواريث، وتأمل المواسم وحركة الفصول، ومراقبة الحيوان،
والإصغاء في الليل، على ضوء شاحب لجدل قضايا الشريعة، وتفسير القرآن الكريم،
والسياحة في فضاء غيطان مفتوحة على خضرة تسر القلب، والإنصات إلى روح الكائنات حيث
ينشق الواقع عن أساطير العالم السفلي الزاخر بألوان السحر والخرافة. قال يومًا عن
تلك البدايات: «كان قلبي معلقًا بين مخالب طائر جارج، محموم بالسياحات في الأعالي؛
علوه فزع ورعب، وانطلاقاته كارثة احتمالات، ومناوشاته لعب فوضوي بين الأمل والموت،
وكلما حط ليستريح نفرته الدهشة بزيارتها المباغتة، وانفتحت مسالك الأفق أمام
المعرفة المرة والغربة الفسيحة». صادقته منذ منتصف الستينيات تقريبًا، التقيته حين
كان رئيسًا لتحرير مجلة «سنابل»، جمعتنا ظروف واحدة، عشنا انكسار الآمال بعد هزيمة
يونيو/ حزيران 1967م، متحملين، ومقاومين زمن القمع، وسطوة السلطة في ذلك الوقت.
كنا أبناء جيل فتح عينيه على وعود الحلم القومي إلا أن صدمة الهزيمة جعلته يختط
لنفسه طرقًا جديدة في كتابة نص جديد يختلف عن اختيارات جيل الآباء، بينما نذر نفسه
نقد الواقع، واختياره الانتماء لناس الهامش تأكيدًا للهوية القومية.
كان «محمد عفيفي مطر» و«أمل
دنقل» قد تنبآ في شعرهما بوقوع الهزيمة قبل أن تقع، عند «مطر» في ديوانه «رسوم على
قشرة الليل»، كما كتب «أمل دنقل» البكاء بين يدى زرقاء اليمامة.
ينشد «محمد عفيفي مطر» في ذلك
الوقت:
هل تقوم القيامة في الصدر
موتاي في غيهب الصدر هل يبعثون؟
ومن حضرة النار ناديت: أطلق يدي
يا مسيخ
عالم من الشعر عميق كالبحر،
وغامض، يزدحم بالنبوءات،
قالت في وصفه يومًا الناقدة
العراقية د. فريال غزول: «قمة الغموض في الشعر العربي والغموض سمة النصوص
الباقية».
أصوات تستدعي الأبدية
في كتابه «الحلم والكيمياء في
عالم محمد عفيفي مطر» الصادر عن دار «بتانة» بالقاهرة حيث يبذل الناقد الدكتور
«شاكر عبدالحميد» ذلك الجهد الفكري للنفاذ لعالم عفيفي الخفي، شديد التنوع منذ
الطفولة التي فيها تتجسد أيام الظمأ والحرمان، والأرض مكسوة بطمي الخصب فيما تعلو
على أديمها أبنية من أضرحة قديمة حيث التأكيد على اليقين بالموت الفادح ـ
والقراءات ترتل في الليل في زواياها بأصوات تستدعي الأبدية حيث تهل صور المغادرين
الممسوسين بالسحر والخرافة.
يدق «شاكر عبدالحميد» على أبواب «محمد عفيفي مطر» المشرعة على من علموه حروف الهجاء، ثم دفعوا به يومًا ناحية شيوخ الوقت من هناك ومن هنا: نيتشه وإرادة القوة والنبالة. الطبيعيون رعيل الشعراء الفلاسفة منذ طاليس حتى الإغريق مرورًا بسقراط والأنبيو ذو قليس، حتى الصوفيين العرب، أو الفكر الرياضي، وفكر التطهر والتقوى الفلسفية عند فيثاغورس حتى وجد الشاعر نفسه غارقًا في تاريخ الفلسفة الإغريقية والعصور الوسطى وعصر النهضة حتى بزوغ الفلسفة الحديثة عند ديكارت وبيكون مع غوص في الفلسفة الإسلامية ودور المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة والمشائين وفلسفة الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا، كما ازدحم قاموسه بالفارابي، كما ازدحم قاموسه الشعري بمصطلحات العناصر والكمياء والتحولات والعود الأبدي والوصل بالحب، والوصل المعرفي بالكراهية بهذه المعارف، وبتلك الثقافة التي لا تنتهي كتب «محمد عفيفي مطر» قصيدته الشعرية الذي جسد فيها أحوال وطنه، ذلك الوطن الذي يزدحم بسكانه السفليين، وطن الضد والحرية، والصدفة العمياء، وطن فيه قداسة الماضى، والليل فيه مسرى لأصوات لمخلوقات تحمد الله، وتتلو في أركان المساجد آيات الذكر الحكيم، وترتل دلائل الخيرات عبر حلقات، احتفالًا بطقوس الميلاد والموت.
انتزع الشاعر معانيه من قلب
البلاد متمردًا على أشكال الشعر القديم، متجاوزًا ما ألفناه من صور وأخيلة، وتلك
القواعد القديمة، السالفة الموروثة دافعًا بها حيث زمن الحداثة وحيث حداثة الشعر،
وتميزه:
حضور الفلسفة.
القبض على تراثه العربي/
الإسلامى.
حضور تراثه المحلي، تراث القرية
المصرية.
«تلبس الشمس قميص المسافات
فى ركبتها بجرح في عرض الريح
والأفق ينابيع من دم مفتوحة
للطير والنخل
سلام هي حتى مشرق النوم
ســـــلام
خلاخيل من عشب
استدارات من الفضة والطمي،
اشتهاء بللته رغوة الماء
تصايحن على الطير، والشيلان
يمسحن زجاج الأفق
يبكين بكاء طازج الدفء
سلام هي حتى مشرق النوم »
والعمر يغيب خلف المغارب، سمة
الوقت، والشيب سنين تلون رأس الشاعر حين يضع يده على جبهته محدقًا في الشمس
الغاربة، يرقب ذلك الطائر الذي اختطف عقد اللؤلؤ من يد العاشق، وانطلق يضرب الهواء
بجناحيه، من عند اتساع الأرض ومكمن الشاعر الذي اعتصر الطين دمًا.
رفض أبوة الشعر
لقد عاش «محمد عفيفي مطر» طوال
عمره يرفض أبوة الشعراء، وتمرد الأجيال اللاحقة عليه بنكران الأب المؤسس الذي أضاف
للشعر دواوين: مجمرة البدايات. الجوع والقمر. يتحدث الطمي. من دفتر الصمت. رسوم
على قشرة الليل. كتاب الأرض والدم. شهادة البكاء في زمن الضحك. ملامح من الوجه
الأمبيذوقليسي. والنهر يلبس الأقنعة. رباعية الفرح. أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت.
فاصلة إيقاعات النمل.
ثم ديوانه احتفالية المومياء المتوحشة،
عن تجربة اعتقاله وتعذيبه وله من كتب النثر الكثير منها أوائل زيارات الدهشة،
هوامش التكوين.
«ينقشع السديم وتنحسر أمواج
الذاكرة الملكية
وهي تطفو جسدًا لخميرة الخلائق
تنكمش الصاعقة وتمور وتعلو
الجبال العالية
وينبسط ما دونها
بين المهاد والرواس يتغول البحر
وينفجر نهرها
ونهر هناك».
أتذكر، حين اعتداء أميركا على
العراق في عام 2003م حين انحاز الشاعر للشعب العراقي مدفوعًا بولائه العربي،
ومناصرته لحق العراق في الحرية والاستقلال، واندفع صوته الرافض يعلو في الشارع
والمقهي ووسط تجمعات المثقفين، وكان يردد أشعاره في الندوة، وكنت أسمعه فأشفق عليه
بسبب من الحضور الكثيف لأمن الدولة.
كان يردد أبياته:
ناديت لو أسمعت أو بلغت..
ما كان امتداد النهر في طين
الظلام
مهرة الأرغول مشدود اللجام
وكان المغني في انفضاض العرس
والسمار يشكي عشقه عامًا فعام
خفتُ عليه تلك الأيام العاصفة.
سافر وغاب، وحين قلقنا عليه
استفسرنا عن أحواله.
فجاءت الأخبار: عفيفي اعتقل،
أخذوه بليل من القرية إلى مبنى مباحث أمن الدولة بالقاهرة. كانت ردود الأفعال
غاضبة خصوصًا بين جيله الذي يمثل الوثبة المضادة في الثقافة المصرية. باشرنا فضح الأمر؛
بيانات ضد اعتقال الشعراء، ومقالات في الصحف الخارجية، وجهزنا مادة لعدد من مجلة
الناقد اللبنانية أثناء بحثي. أين استقرت الأحوال بمحمد عفيفي مطر، وفي أي السجون
يكون؟
أخبرني صديق من العارفين بمجريات
الأمور أن (مطر) الآن نقلوه من أمن الدولة إلى معتقل طرة الرهيب. في الضحى، توكلت
وذهبت، وسجن طرة من القلاع الغابرة تحوطه الأسوار، ويزدحم بالأسرار وما يجري داخله
يثير الريبة. وصلت أمام البوابه العتيقة. صباح معتم، وغبرة الصحراء تخنق الشمس،
والزوار بجوار الأسوار ينكمشون، وأنت وحدك تتأمل المشهد كأنك في زمن آخر فيما يجلس
البشر كأسرى الحروب.
اقتربت من حارس البوابة الذي
بادرني بالسؤال:
فيه حاجة يا أستاذ؟
أنا جاي أزور معتقل
معك تصريح؟
أخرجت بطاقة عضوية اتحاد الكتاب
وأعطيتها له. تأملها ونظر ناحيتي بنظرة مستريبة ـ وقال لي:
لحظة
ودخل من البوابة إلى داخل السجن
انقضى وقت وعاد وطلب مني أن
أتبعه:
المأمور عاوزك
أخذت وسط هذا المشهد الذي لا
تعرف حساباته، ومأمور السجن أكبر رأس يستدعيك. حين وصلت كانت البطاقة لا تزال في
يده.
سألني المأمور:
الأخ صحفي؟
أنا عضو اتحاد الكتاب المصريين.
وجاي تزور الجدع عفيفي مطر؟
لو سمحت سيادتك
هرش ذقنه، ورفع الكاب عن رأسه ثم
قال لي:
لكن الجدع ده مصيبة كبيرة، ثم
ابتسم، وقال على أية حال… ونادى على الجندي الواقف على الباب.
هات عفيفي مطر.
وجلست أنتظر تناوشني المخاوف، مر
وقت قصير ورأيت «محمد عفيفي مطر» أمامي، روعت بما أرى وزلزلني المشهد، وخفت أن
أصرخ. كان يتلفع بتلفيعه ريفية ويرتدي ثوبًا قاتمًا، وكانت عيناه تهرب من عيني
وعلى وجهه حزن متألم يعكس معاناة بلا حدود، كان وجلًا وحزينًا كأنه قادم من مشوار
بعيد، يلهث ويريد أن يختفي من أمامي. شعرت به كمن تصعب عليه نفسه، وأنا روعت وكاد
يغمى عليَّ حين رأيت جرحًا غائرًا شريرًا يمتد من منتصف الجبهة حتى أسفل الأنف،
جرحًا لا يزال طريًّا، قانيًا، تطل منه كل شياطين العالم، لم يتكلم ولم أتكلم،
وبادرني المأمور بغلاظة:
– عفيفي أهه شفته؟ ثم أشار
للجندي أن يأخذه. وأنا قلت في نفسي: لقد عذبوه… يا للعار!!!
قبل أن يرحل عن الدنيا قال في
تلويحة وداع:
«في تلويحة الوداع أقول حياتي
مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي، وكرم استحقاقي. لم أغلق بابًا في وجه أحد،
ولم أختطف شيئًا من يد أحد، ولم أكن عونًا على أذى أو ظلم أو عدوان؛ اللهم فاشهد»
عليه رحمة الله في العالمين.
_____
\ المصدر: مجلة الفيصل /
السعودية
إرسال تعليق