(تحذير
المقال؛ مشحون بثاني أكسيد السؤال)
بين فاصلتين، الثانية منقوطة، وقف سليم بركات على عجائب صناديقه، التي فتح واحدا أو اثنين منها ذات أضحية، في صحيفة الحياة، فنحرها، وأتى على عبقريته في الشعر، مجاهرا بما هو عليه من نبوغ الفتى القادم من الشمال السوري، ليبوح بأنه أعاد وحرر مختارات من شعر نزار قباني، بموافقته، بعدما علم قباني بما هو عليه من براعة ومهارة في التأليف.
عادته الصاخبة تلك،
التي ظل يلهث خلفها، بصمته الضلّيل، ليكون الضحية وسط قتلة، فيرتفع بالصمت عليهم،
كما أخفى، لكن صمته خالفه، فظل فيه، لينضوي بعد فشله بتلقين فنون القيل والقال،
والتعجرف بألا مثل له من قبل ومن بعد.
ولا غرو أن قباني، لم
يكن بتلك السهولة التي تجعله يندفع، نحو فتى يدخل بيروت سابحا في ردهاتها، باحثا
عن لقمته، متوسما أن يحط في حضن واحدة من أعاجيبها الباذخة، تلك التي كانت تُمسك
بزمامها منظمة التحرير الفلسطينية، ونال مراده في التقرب من درويش، أو الاقتراب
منه.
ومن يعرف قباني، يعرف
أرقه في ضبط تآليفه، وكيف يرعاها بحنو عاشق يحدب على معشوقته بحنو قديس، لا يضع ما
يكتبه في يد أحد، ليس ترفعا، بل لأنه وصل مراتب، لا تتيح له ترك من يعد له مختارات
من شعره، كأن تقف على يد فتى، مشدوه بعد، بسرائر بيروت التي كانت تضج بالأرق
والسؤال والنميمة والاغتيالات.
سليم بركات؛ أعجوبة حقا
في الكتابة العربية، وبارع في استدراج المفردات الدفينة في باطنها، ولا يمكن لمبحر
في اللغة، إلا أن يتوقف عند تجربته، ويرى فيها، ما يؤرق التساؤل حول منابع تجربته
الفوارة، مانحة العطر واللذة والضباب.
ومن لم يقترب منه،
ليقرأه، أغفل كثيرا، فهو لا يستهان به، شاعرا وروائيا، وممثلا عابرا لمفازات شاسعة
في ترانيم محراثه التي شق بها أثلام القاموس، ونبش في مقابر الأوابد، مستخرجا ما
غاب حينا من الكلمات، أو رفل به القاموس، فأعاده بمنسوب جديد، تضج في جنباته حياة
متحركة، ترقص وتغني وتزدهر بحيواتها الجديدة، لتعبر القاموس ثانية، فيرقنها الباحث
على ضفة جديدة من ضفاف المعنى المُختَرع.
في عام 2012، تفتحت
سريرته على فتح صندوق من صناديق أعاجيبه، فاسترسل في كتابة نص شاق، حاشد بمفردات
ذاهلة، حكا فيها عن ألفته وإيلافه لمحمود درويش، العابر للريح، والمُعَلّق بضوئه
كل فراش العالم، الفاره، النادر في مقادير التجربة، الساكنة فلسطين أرباض روحه،
والمشحوذة بأناشيده التي وضعت العدو على حافة جرف، ما يزال يترقب فيه، سقوطه
المدويّ إلى الهاوية، منذ سجل أنا عربي، وعابرون في كلام عابر، وأحمد الزعتر،
ومديح الظل العالي، وحتى قصيدته التي لا تنتهي.
حسنا فعل سليم، حين بقي
مُخفيا شقوق صندوقه منذ ذاك العام، المتورط فيه بالنميمة، تلك التي لا تكشف عن
خبيئ بقي مطمورا في قلبه المسحون تحت سيرة الشاعر، الهارب من ضجيجه إلى الرواية،
مسترسلا في تمارينه عليها، حتى لم يعد الشاعر فيه واقفا على نثر أم سرد أم شعر،
مختلفا على قرار، يحمله إلى جهة، تظلل ما ينتجه في الأدب، دون غواية الغيبة
والاغتيال.
نزق سليم مشهود، ولعل
انطواءه في هجرته من سوريا إلى بيروت، ومن ثم إلى قبرص فالسويد، التي ألقى بأثقاله
في جبالها، نائيا بنفسه عن الكينونة التي تتيح له الاشتباك مع المعنى في الوجود،
والإصغاء لأنين الهمس والغضب في الصدور، لم تدربه على امتلاك ألفة درويش الذي لم
يكن يغيب عنه، إلا ليسأله عما يريد، حرصا ومحبة.
ذاك درويش بما عليه
الوقع في الشاعر، من تدابير، ترتقي بروحه إلى السمو، وذاك سليم الذي تَفقد أنفاسه
اللاهثة، وراء صديقه، ليصل سمو الشاعر في مديح الظل العالي، أرقه الذي لا ينضب، في
المكوث شاهقا لا يُطال.
لندع الحكمة إذن على
طرف السؤال؟
كيف فعلها سليم؟ يسدد
قبضته إلى قلب درويش الذي أودعه إياه، ثم يبتسم له، ويحنو عليه، ويتناول معه
الحبّار، ويرى فلذته التي كان عليه أن يكون حفيده، فيسرُّه أن اتصالا بالهاتف، من
امراة غامضة، تخبره بأنها تحتضن طفلة من صُلبه، ولم يذكر شيئا سوى ذاك، وترنح في
الادعاء بإخفاق درويش عن الشعور بالأبوة، مُفقدا إياه الإحساس بفلذته التي لم يعلم
عنها إلا باتصال هاتفي، من امرأة متزوجة، أخبرته بالأمر مرات؛ كما يقول، وكأن ما
قاله درويش حينها، يوجب عليه أن يصوّبه، من دون دالة أو من دون أن يبدو بأن في
الأمر- ربما اقتناص له، ليقول ما قاله في حضرة سليم الذي رقن الكلام على لسان
صديقه، بلغته لا بلغة درويش.
وأخذ أن المرأة غابت،
دون أن يولم لمعرفته الضليعة بالأحوال، بأن مثل هذا يحدث مع كثيرين ممن هم في مقام
درويش، وهناك من يتربص ليكون عالقا بهم، أما منذ 2012، الذي بقيت فيه تلك المرأة
في غيّابتها، ولم يجر أمر يفيد بما أفصح عنه الشاعر لصديقه، من أنها ما تزال
تلاحقه أو تتصل به، فلم يورد لنا برهانا على ذلك، وإنما حوارا مستقطعا، آلفه
بتعابيره الضاجة، كاشفا بأن المرأة متزوجة، ليحمي سرده بالسرية والعمق، وتلك من
الحيل الساذجة، لا يرتكبها روائي أو كاتب، إلا إذا كان من الدرجة التاسعة أو
أقل. وذاك دأب يُتخمنا به سياسي، يريد أن تتكشف فيه عبقريته الفذة في إدارة
الحروب والصراعات، وألا مثيل له، فيروي مذكراته لصحفي رديء، يزين له ما لا يليق
بصاحب تجربةٍ، يمكن سردها في عدة سطور وكفى، ويجعله بطلا للعبور أو شهيدا حيا،
مغفلا بأنه رفل بدم من اغتالهم وقتّلهم وداسهم، ليصير إلى ما صاره، سياسيا، يهشط،
ويلملم عجيزته الرخوة على مقعد هلك.
اليوم؛ وبعد ثمانية
أعوام يفتح سليم صندوقه، مستحضرا مختاراته عن درويش، وما يتخمها من أسرار، لا
يعرفها سواه كما تبجح، ويُقحم ضجيجه بسر كما يفصح، ليس فيه سوى سردية، قد يكون
درويش قالها، من باب أن هناك من يدعي عليه الأبوة زورا، أو ليستغله في ضالة من
الضلالات، مستمرئا القول بلسان صديقه الذي احتضنه، حتى كان على ابنه أن يكون
حفيده، مبعثرا زوبعة، ينقصها أنه، لم يسأل المسرودة هذه، كما يسأل شخوصه في
رواياته، عن مساراتهم الغامضة.
أي غيظ يدفع شاعرا،
لينسب إلى شاعر كل هذا الهذيان، المبتكر، كلحظة لقائهم الأول المبتكرة في بيت
أدونيس؟
وما الذي يستهوي شاعر
تغلبه الحنكة حين يصل به العمر إلى حواف الترقب والحذر من المزالق، فيربض على ما
فيه من تهيؤات، حتى لا يبدو غائبا عن الوعي؛ أو مُزهمرا، أو خالطا بين شخوص
رواياته، ومن لهم أيادي ملائكة عليه، أو مشقوقا بالضغينة والأرق مما هو عليه في
عزلته، لا يراه فيها إلا من يُنهكون السؤال في البحث، ويركضون إلى الرؤية، فيقعون
على خزائنه، فيسعدون برفوفها، أو ينفرون مما تحتشد فيه من ضجيج.
ذاك ما ألفناه في غير سليم، ممن رأوا أنهم أعلى من السنديان، وقد سبقه إلى هذا الفجور، كثر، وهم أصغر من أن يصلوا إلى تلك الأوراق الأبدية في اخضرارها، فلم يفعلها سليم
لم؟
لقد أفزعني، وبت خائفا من أن الرجل يهذي، أو وقع في مرض عقلي، أو أصابه ما أصاب
الصغار ممن يريدون قتل والدهم، أو أن ثمة قناصا، يتربص بصداقة، تتفتح فيها الريح
على الحياة حتى آخر نفس، فزيف القصة كلها على لسان سليم؟
إرسال تعليق