الجزء الثاني
- Charles
Baudelaire
- Dr Mohammad H Rishah
يقول حلمي الريشة:
اعتبرني متصالحا ومختلفا عن ذاتي في آن. المبدع يجب أن يكون هذا جزءا
من تكوينه، لأن التصالح يعني الرضا والقبول، والأشياء القابلة للرضا والقبول قليلة
جدا، وحالنا العربي بعربه يفضح بصراحة ووقاحة عن هذا. أنهما يسكنان في دواخلنا
بدِعَةٍ، وخضوع، واستسلام.
يقول شارل بودلير:
أعطيتني وحلك وجعلت منه ذهبا.
الاسترشاد في التركيبة الشعرية عند الشاعرين
تثير التركيبة الشعرية عند الشاعرين الاهتمام بأسلوبها الشعري
المتجدد، ففي الوقت الذي تأسس الصور على حاسة النظر والمخيلة. راحا الشاعران إلى
أبعد من ذلك باستعمال بتقنية الاسترشاد (إذا صح هذا التعبير) المتولد من التجارب
الحياتية المعاشة، خاصة الضحلة منها.
إن القصائد لا تشتغل لوحدها في غفلة عن الشاعرين، أو تنحرف عن
مسارهما. إنه حوار الشعر في أفق انفتاحه على صاحبه وعلى محيطه. هكذا يعملان
لاستيعاب التحفيز الفكري بواسطة استخدام باقي الحواس لتتصور من خلالها أدق تفاصيل
الأشياء. وهذا الاستشعار كما يبدو (لي) أصبح هو الوعي الفاعل الذي يحدد مناطق
التجربة ويراعي تحقيقها حتى وصول المعنى إلى القارئ، فهي بنية فنية مدروسة ومحسوبة
بدقه. ليست عفوية كما قد يعتقد البعض. هذا ما استنتجته من شعرهما. يريدانك أن
تستشعر داخل شعريهما بالألم الذي يشعر به الآخر. وكأن كل واحد منهم يقول لك:
- أنا ابن لكن لا أم تثبت هويتي سوى شعري الذي يشدني إليها.
- أنا فلسطيني لكن لا شيء يثبت هويتي سوى شعري بطاقة تعريفي.
إن القصائد عندهما مثل الدمى Matryoshka كل قصيدة تخفي داخلها نسخة مصغرة منها لغويا. لكن كل واحدة تقول كل شيء فينا يعكس أشياء خارجا عنا. انه الوعي يشق الأشياء في كيانها.
تقول الشّاعرةُ والنّاقدةُ والأكاديميّة "سمر محفوض":
"الْكِتَابَةُ لَدَى الشَّاعِرِ الرِّيشَةِ لَيْسَتْ نَزْوَةً،
بَلْ تَوَاتُرٌ حَيَوِيٌّ مُتَجَاوِبٌ وَمُبْتَكَرٌ عَلَى
نِطَاقِ المُحْتَوَى الشِّعْرِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ احْتِوَاؤُهُ كَمَادَّةٍ
بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْخَيَالِ وَالتَّوْرِيَةِ وَالظُّهُورِ
وَالْحُنُوِّ، أَحْيَانًا."
وفي حوار آخر يؤكد الشاعر محمد حلمي الريشة ما سبق ذكره في الجزء
الأول حين سألته الصحفية وفاء عياشي
"الشعب، والأرض، والإنسان". فلسطين الآن شعب بدون وطن،
والإنسان الفلسطيني في المهجر وتحت المجهر، وبين الحواجز من غزة إلى حيفا، أين كل
هذا في قصيدتك؟
فأجاب:
· كلُّ هذَا كانَ فِي قصائِدي، وحتَّى منذُ مجموعتِي
الشِّعريَّةِ الأُولى الَّتي صدرتْ وأَنا كنتُ طالبًا جامعيًّا. إِنَّ
صوتَ الشَّاعرِ نادرًا جدًّا مَا تسمعهُ أُذنَا السِّياسيِّ، وهُمَا أُذنانِ
موجَّهتانِ؛ واحدةٌ لسماعِ "الآخرِ المريضِ"، والأُخرى لسماعِ
"الآخرِ النَّقيضِ"، وكلاهُما يفعلُ بِنا فعلَ أَهوائهِ، وأَمراضهِ،
ومصالحهِ. مصيبة كُبرى، ونكبةُ النَّكباتِ.
يرى كل شيء خائب، الماضي، والحاصر. كل يوم يضيع
يزيد من المسافة التي لا يمكن استدراكها، والإخفاقات متوالية تضعف و تسكن.
إنها قوة وحيوية الروح الشعرية، وجه من أوجه التشابه بين الشاعرين (المجددين).
أما عن الشاعر شارل بودلير يقول الشاعر بول فاليري Paul Valéry
كيف كان لمعاصريه شعراء ونقادا وصحفيين أن يدركوا أن أشعار
ديوان شاعر صغير لم يتجاوز عمر الشاب سيكون ألمع ما أنتجه القرن شعريا، وبما
انطوى عليه من فتوحات لا تستنفد؟
بمصطلح Paul Valéry إنها
قفزة خارج السياق، لا السياق الشعري الفرنسي وحده بل الأوربي كله الذي كان محكوما
بهيمنة الرومطيقية.
"تعبّر كلمة الرومنطيقيّة أو الرومانسيّة لغة عن القصص الخيالية
ذات الخيال الجامح والمشاعر الجيّاشة التي انتشرت في أوروبا أواسط القرن
الثامن عشر، وصورت الأبطال وانتصاراتهم، وهذا ما أعجب الرومنطيقيّون، فنسبوا
مذهبهم إليها، وسمّوه باسمها. حتى أصبحت مدرستهم الرومنطيقية مذهبًا له خصائصه
المائزة، ويتبعه كلّ أديب يقف ضد الكلاسيكية في دعوته إلى الحرية والتحرّر من
الاحتكام إلى العقل والقواعد القديمة التي نادى بها أفلاطون وأرسطو، وبات يعبر عن
العواطف والخيال وجمال الطبيعة. وقد كان فريدريك شليجل الناقد الألماني هو أول من
صاغ مفهوم الرومنطيقية كنقيض للمدرسة الكلاسيكية، وركز على التلقائية والتحرر من
التقاليد وإعلاء قيمة الفردية وقيمة الفرد، الذي ظهر في الأدب الرومنطيقي إما
إنسانًا مكتئبًا أو إنسانًا ثائرًا على مجتمعه"
"منقول"
الثورة الأدبية تأتي دائما. آجلا أم عاجلا. في حياة الأدب والأدباء لتفرز العامل
عن الخامل. الصادق عن المنافق. ودائما كذلك. عندما يتعين الحسم. إن الثورة الأدبية
هي القاسم المشترك بين شارل بودلير ومحمد حلمي الريشة.
لا بد أن بودلير أدرك مبكرا كما هو الحال بالنسبة للدكتور حلمي الريشة
إن شعراء مشهورين تقاسموا في ما بينهم أكثر المجالات الشعرية ازدهارا. كل شيء تم
الاستيلاء عليه. كأنهما كانا يراقبان هدا الازدهار بعين يقظة لكل ما يكتب.
يقول د.محمد حلمي الريشة
إِنَّ الحديثَ عنِ العمليَّةِ الإِبداعيَّةِ
بشكلِها الحداثويِّ لَا يمكنُ أَنْ أَختزلَهُ فِي ردٍّ واحدٍ ووحيدٍ أَعزلَ عنِ
الواقعِ والمشهدِ الثقافيَّينِ، إِنَّما يمكنُ القولُ إِنَّهُ لَا حداثةَ بدونِ
أُسسٍ ثقافيَّةٍ ماضويَّةٍ، شرطَ عدمِ التَّعصُّبِ لهَا، بمعنَى أَوضحَ لَا
يمكنُكَ الاطِّلاعُ والانكبابُ على الإِبداعِ بمعزلٍ عنِ اللُّغةِ العربيَّةِ،
هذهِ اللُّغةِ الَّتي لهَا ثوابتُها، ولهَا تحوُّلاتُها الَّتي فرضتْها
السَّيرورةُ الفكريَّةُ، والعقلانيَّةُ، والجماليَّةُ أَيضًا، بدونِ إِغفالِ
التَّثقيفِ الذَّاتيِّ والشَّخصيِّ لمجرياتِ الإِبداعِ العالَمي، غيرَ أَنَّهُ لَا
يمكنُ إِنكارُ أَنَّ الحداثةَ دفعتِ القارئَ والمبدعَ إِلى السِّباحةِ فِي يَمِّ
التَّغييرِ الحاصلِ علَى مستوَى الأَخيلةِ، والصُّور،ِ والتَّركيبِ اللُّغويِّ
بدونِ غرابةِ لفٍّ، ولَا دلالةٍ، وإِنْ جنحَ البعضُ إِلى الغموضِ المصطَنعِ
(الإِبهامِ)، والمتكلَّفِ الَّذي أَغرقَ الكثيرَ منَ النُّصوصِ فِي العبثيَّةِ
الدَّلاليَّةِ، بينَما برزَ آخرونُ تمكَّنوا جيِّدًا منْ فرضِ ذواتِهم
الإِبداعيَّةِ بشكلٍ. ملحوظٍ منْ خلالِ تمرُّسِهم اللُّغويِّ والثَّقافيِّ
أَقتبسُ مقولةً للشَّاعرِ المكسيكيِّ أُوكتافيو باث: "كنتُ أَكتبُ، فِي شبابِي، بدونِ أَنْ أَتساءَلَ لِماذا. كنتُ أَبحثُ عنْ بابِ الدُّخول إِلى الحاضرِ: أَردتُ أَن أَكونَ ابنَ زَمني وعَصري، حتَّى لقدْ أَصبحَ هاجِسي فِيما بعدُ: أَنْ أَكونَ شاعرًا محدثًا. وهكذَا بدأَ بَحثي عنِ الحداثةِ. ولكنْ، مَا هيَ الحداثةُ؟ اكتشفتُ أَنَّها سرابٌ، ...، ليستِ الحداثةُ. خارجَ أَنفسِنا، بلْ هيَ فِي دواخلِنا. "
أما الشاعر بودلير كنب إلى أمه قائلا
لم أقرأ سوى أعمال حديثة. لكن من تلك الأعمال التي يتحدثون عنها في
كل مكان . ولها سمعة. ويقرأها الناس. آه حسنا. كل ذلك زائف، مبالغ فيه، ومهووس،
ومفتعل.
إنني متقزز من كل ذلك ليس هناك سوى مسرحيات وأشعار Victor Marie Hugo.
وكتاب"شهوة" Charles Augustin Sainte-Beuve التي أمتعتني. إنني قرفان تماما من الأدب . وفي الحقيقة فمند
عرفت القراءة لم اعثر بعد على عمل يمتعني تماما. ويمكن أن احبه من أوله إلى آخره.
ويكتب في أحد مشروعات مقدمة «أزهار الشر»:
«لقد تقاسم شعراء مشهورون في ما بينهم - منذ أمدٍ بعيد - أكثر
الأقاليم ازدهاراً في المجال الشعري. لقد بدا لي ذلك ساراً، بل أكثر إمتاعاً لأن
المهمة كانت أصعب، وهي استنباط الجمال من الشر»: «الوعي في الشَّر»، «لأنَّنِي
أُرِيدُ البَحثَ عَن خُلاَصَةِ الشَّر»، كما يقول في قصيدة له.
إنه «الوعي». الوعي بدور «الوعي» في الإبداع، بالخروج - أيضاً - على
السياق الرومنطيقي الذي يُحِل «الوحي» والإلهام أداة للإبداع، طالما اعتبروا
«الشعور» والعاطفة مركز ومنطلق الإبداع. و «الوعي» هو ما يخرجه عن السياق السائد،
ويكتشف له بؤرته الشعرية الفريدة: «استنباط الجمال من الشر»، بؤرة لم يكن الوعي
«العام» بقادر على استيعابها، آنذاك
منقول
تتجلى هذه القوة الشعرية عند شارل بودلير
حين قال عنه الكاتب الفرنسي Paul Bourget:
"هذا الإنسان الأعلى كان ينطوي في شخصيته على
شيء مقلق وسري مخيف حتى بالنسبة لأصدقائه الحميمين. وهذا الشيء كان يرعبهم فيه أو
يسحرهم"
وهي المقولة يكدها د. محمد حلمي الريشة:
كمَا أَقولُ دائمًا، وسأَردِّدُ قولَتي:
"الشِّعرٌ لا يتوقَّفُ، أَو يتعطَّلُ، أَو يخلدُ إِلى السُّباتِ، حينَ يفقدُ
شاعرًا مهمًّا، بلْ يظلُّ يتجدَّدُ، وحينَ كلِّ قصيدةٍ يتوالدُ ويسطعُ كمَا
النُّورِ. الشِّعرُ حالةٌ روحيَّةٌ وجسديَّةٌ يقظةٌ (لا أُعرِّفهُ) لهَا مَا يدلُّ
علَيْها وقعًا حينَ تصيرُ في حيازةِ القارئِ الحقِّ، وبِذا تصيرُ سرمديَّةَ
الإِبداع.
وهو ما أدركه Hugo Victor Marie
ببصيرته الخارقة - حين كتب ل شار بودلير: «إنك تخلق
رعشةً جديدةً في الشعر الفرنسي».
يقول د.محمد حلمي الريشة
وأَكادُ أَقولُ، بلْ إِنِّي أُفصحُ أَنَّ الكثيرَ
مَا هوَ بشعرٍ بقدرِ مَا هوَ تَصابي الشُّعراءِ ومراهقةُ بعضِ الأَقلامِ. لكنْ،
فِي نهايةِ الأَمرِ، لَا يظلُّ بذاكرةِ الشِّعرِ حاضرًا إِلَّا مَنِ اجتهدَ
وأَبدعَ، فغربالُ الشِّعرِ غربالٌ عادلٌ.
لقد استفادا الشاعران من تقنية المشاهد بأطياف قوية من الألوان وسماع
الأصوات الخفية منها أكثر من الواضحة. حتى يتمكن المتلقي من المرور بالتجربة بكل
تفاصيلها، كأنهما استخدما التعبير بواسطة تراسل الحواس أو ما يسمى بالتصاحب الحسي.
قدما للشعر تقنية الاسترشاد الخيالي كإحدى الأدوات الشعرية البالغة الأهمية .
إرسال تعليق