يونس إمره.. المتصوف الأناضولي الذي ألهمت أشعاره ورحلاته الأدب التركي الحديث
يعود اللسان التركي لمئات أو حتى آلاف السنين،
لكن التركية المكتوبة تعد لغة شابة تطورت من لهجات تحالف قبائل الأوغوز (وهم فرع
من الإيغور) والقفجاق الذين وصلوا إلى آسيا الصغرى أو الأناضول منذ القرن التاسع
الميلادي قادمين من وسط آسيا، وهي الهجرة التي أثمرت الدولة السلجوقية التي ورثتها
السلطنة العثمانية.
وعلى الرغم من أن السلاجقة العظام الذين حكموا
أراضي شاسعة امتدت بين أفغانستان وإيران شرقا وحتى الأناضول غربا بما في ذلك
العراق والشام، تحدثوا التركية في البلاط السلطاني والمدارس والأسواق، لكن
الفارسية كانت أكثر استخداما في الأدب والتراسل، بينما اعتبرت العربية لغة العلوم
المختلفة، وأثّرت اللغتان بشكل كبير في التركية الحديثة.
وتطورت اللغة التركية المكتوبة تدريجيا وتأثرت
بالتقاليد الإسلامية، التي مثلها الشاعر التركي يونس إمره الذي ألهمت أشعاره
المكتوبة باللهجة التركية الأناضولية القديمة الثقافة والأدب التركيين بالعصر الحديث،
وأصدر المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو قرارا بالإجماع يعلن عام 1991، الذكرى 750
لميلاد الشاعر، "عام يونس إمره الدولي".
شاعر الأناضول
على الرغم من كثرة الأساطير التي تتناول حياته
فإنها تحجب قصته الحقيقية التي لا نعرف الكثير من المعلومات الموثوقة عنها، ومن
المعروف أن إمره كان صوفيا التزم بطريقة الشيخ تابدوك إمره، الذي كان متأثرا
بأشعار أشهر متصوفة القرن الـ 13 الميلادي مولانا جلال الدين الرومي، لكن أشعار
يونس إمره جاءت، على خلاف مولانا، أكثر شعبية وبساطة.
ووفقا لأسطورة متكررة حول حياته، اقترب يونس
إمره من تكية صوفية للدراويش قاصدا طلب الطعام، وهناك التقى حاج بكتاش ولي
(1201-1271) مؤسس الطريقة البكتاشية الشهيرة التي انتشرت في تركيا وانتقل مركزها
لألبانيا لاحقا وارتبطت بطبقة الإنكشارية وهم قوات مشاة من نخبة الجيش العثماني
الذين شكلوا حرس السلطان الخاص.
في الأسطورة، طلب يونس من الحاج بكتاش قمحا لكن الشيخ الصوفي عرض عليه الدعاء بدلاً عن ذلك، وهو العرض الذي رفضه يونس ثلاث مرات وأخذ القمح قبل أن يكتشف خطأه ويعود لتكية الدراويش طالبا الدعاء والبركة، وهناك أخبره الشيخ أن الفرصة قد فاتته وعليه إن أراد أن يلزم الشيخ تابدوك إمره، وهكذا بدأت رحلة عقود من اتباع هذا المعلم الروحي وأثمرت أشعارا صوفية يرددها الكثير من الأتراك حتى يومنا هذا، يقول في أحدها "لست مدعيا، لكنني جئت لأنشر الحب في القلوب، فمنزل الحبيب هو القلب، وديدني أن أعمر القلوب بالحب".
تلقى يونس تعليما جيدا في مدرسة
كاراتاي السلجوقية التي تدرس العلوم الشرعية والقانون، وكان يفترض أن يعمل في
وظيفة قاضي سلجوقي لكنه اختار أن ينتظم بالطريقة الصوفية ومرشدها الروحي، ويعتقد
كثير من المؤرخين أن الطرق الصوفية لعبت أدوارا مدنية مهمة في الأناضول عندما ضعفت
حكومة السلاجقة وعاصمتهم قونيا في القرن الـ 13 الميلادي.
ووفقا لرواية شعبية فقد
كتب يونس إمره مئات القصائد التي وجدها أحد معاصريه ويدعى ملا قاسم مخالفة للشريعة
فأحرق الكثير منها، لكن بعضها نجا في مخطوطة يعود تاريخها للقرن الـ 15 بمدينة
بورصة التركية، وتدور قصائدها حول السعي لتطهير النفس والتطلع إلى الارتقاء
الروحي، ويتناول الشاعر فيها مواضيع الحياة والموت والتفاني، والعدالة الإلهية.
وعبر عن طريقة تفكير الصوفية في عصره بلغة شعرية بسيطة وسلسة، تعد امتدادا للتقاليد الشعرية التي بدأت مع أحمد بن إلياس اليوسفي المتوفى عام 1166م، والذي يعرف بأنه أول صوفي تركي، إذ درس التصوف والعلوم الدينية وترك أشعارا صوفية.
ويقع قبر يونس إمره المعروف في قرية ساري كوي التابعة لولاية إسكي شهير غرب أنقرة، ويشير المؤرخ والرحالة التركي أوليا جلبي الذي عاش في القرن الـ 17 الميلادي إلى تطابق أسماء المناطق والبلدات والقرى الواردة في سيرة وقصائد يونس إمره مع مناطق تقع كلها في المقاطعة التركية التي تعرف باسم كارامان اليوم.
رحلات يونس
وكتبت المستشرقة
الألمانية "أنّا ماري شيمل" كتيبا صغيرا سمّته "رحلات مع يونس
إمره" وضمنته جوانب من سيرته وأشعاره، وأورد الأديب المصري الراحل حسين مجيب
المصري الذي يلقب بعميد الأدب الإسلامي مجموعة من أشعار إمره التي ترجمها للعربية
مع الباحثة بديعة عبد العال في الديوان الصادر بالعربية عن الدار الثقافية للنشر
بالقاهرة.
وكتب أستاذ الدراسات
الشرقية بكلية آداب جامعة عين شمس في مقدمة كتابه أن عوامل عدة تضافرت وساعدت في
انتشار التصوف بالعالم الإسلامي في عصر يونس إمره، أبرزها غياب النظم السياسية
القوية وفساد النظام الاجتماعي وكثرة الصراعات الداخلية والنزاعات على العرش، وهي
العوامل التي ساعدت في توجيه النفوس إلى التصوف "حيث استراحت نفوس الناس لهذا
المنهج الديني الذي يقوّم حياتهم ويعينهم على تحمُّل مصائب الدهر. فلما شيدت
التكايا، لجأ الشعب التركي إليها محتميا بها ووجد فيها ملاذا آمنا إلى جوار شيوخ
التصوف الذين لم يكن لديهم شغل شاغل سوى تأدية العبادة الخالصة وإرشاد العامة إلى
جادة الصواب".
ويقول إمره في إحدى
قصائده، "عشقك أخذني مني وأنت تلازمني.. إنني أحترق في ليلي ونهاري إليك وأنت
ملازمي".
وعانى إمره من آلام اغربة وتمتلئ قصائده بأسماء البلاد التي ساح فيها شرقا وغربا، كما تشير لحزنه على بلاد الترك التي تعرضت لغزو المغول وما أحدثته هجماتهم من سلب ونهب وخراب، وتجاوز إمره في أشعاره موقف الصوفي الدرويش ليكتب شعرا يحضّ الأمة على الاتحاد في مواجهة المغول، والنظر والتأمل في حال الإنسان، والبعد عن الظلم والكِبر.
وارتبط شعر يونس إمره
بالأدب التركي، إذ هو أول شاعر تركي صريح النسب في تلك الحقبة من الزمن التي ولد
فيها الشعر التركي، وأيضا لأنه شاعر منطلق على سجيته في الشعر ينطق بالقصيد طبعا
لا تطبُّعا، بحسب تعبير حسين مجيب المصري الذي يرى أن إمره لم يسِر في طريق تقليد
شعراء الفارسية في زمنه.
المصدر : الجزيرة
إرسال تعليق