-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

شعرية اليتم في المنجز الشعري للمغربي العربي الحميدي

احمد الشيخاوي – شاعر وناقد مغربي

هي متعة اللعب فوق أسوار الكلم” (1(.

يمكن اتخاذ هذه العبارة مدخلا إلى عوالم هذا الشاعر، الذي يكتنف ممارسته التصوير الفني،و التكثيف البصري، مدّ خارطة للبوح،في اعتقاد الذات بالفضاء المطلق واللانهائي واللامحدود.

كتابة وإن اعتدّت بالغموض، تظل مقبولة، ومنذورة للتعرية والكشف عن ماورائيات اللون فيها، بدرجة أولى.

نستحضر العبارة أعلاه، والتي استهللنا بها هذه الورقة، بما يفيد دوال الكلم، منظومة ما تحيل عليه من كتابة يعتريها النقص المقصود،المتوقف على بياضات التأويل.

تلكم دوخة الفقد الملازمة لصيرورة الإنكتاب، نصا وزمكانا، مثلما يشي بها الإهداء، سواء في الباكورة” دموع الكرز ” طبعة أولى 2018، أو مجموعة الموسومة ” في صمت ” الصادرة عام 2019، عن غاليري الأدب.

[إلى سيدي

الألم يحضرني ليلا حين ينام النذلاء

أنت الخالد وهم الهالكون.].

ومن ثم، نحن إزاء ذات تكتب بفوضوية، تهدم كي تقيس مستويات الجرح المثقلة به أناة، أنتجها الفقد، وهكذا ذلكم الانعكاس على ما ينبثق منها، ليلف في الأخيرة دورة حلزونية، عائدا إليها كمركزية لليتم والفقد، هي الأليق، بمثل هذه الضبابية الناذرة،مثلما تتولّد عنها قصائد القتامة واللعنة الأبدية التي تلبس عالما بأكمله.

يقول مصطفى لغتيري في تقديمه لثاني دواوين المبدع العربي الحميدي:

[وتمضي القصائد على هذا المنوال محاولة أن تجعل من الصورة الشعرية ركنا مكينا في كتابة الشعر، منسجمة في ذلك مع منطق العصر، وخاصة فيما يتعلق بقصيدة النثر،التي لم يعد الإيقاع يغريها، بل أضحى المعنى العميق والمستغلق عن الفهم ضالتها، وقد وجدت في المجاز بغيتها فأغرقت به القصيدة].

نطالع له :

أفتقدك

عندما أتنفس

تحت

ضوء القمر

والحب ممر

وليس للإقامة

ضعف

وليس فقر في الإيمان

شعاع حبك

عندما

ترسل النجوم الشهب

احتفال في ضيافة الظلام

روحي مثل شجرة

تسبح في السماء

والدموع جذور

تسير في الأرض

حزني السري

قطرات حب

على قبر قلبي

أوراق خضر

الموت

ليس له آذان](2).

وأيضا :

[كيف ألاقيك

والزمن وصول

بعد علة الروح

وجسم اعتلاه الذبول

سيدي

لم أعد مهرا

تخشاه الخيول

 أدنو منك بعد

عيشة تطوي ظهر الوعول

أهي النهاية أيها الموت

يا حاكم الفصول](3

).

لذلك فهي كتابة قابلة للإضافة، يبكي فلك الفراغ، وكل ما ترجم به من رسائل مغلفة برمادية الكلم، عبر متاهات التشظي، الناجم عن أحاسيس اليتم، ينمّ عن دعوة للارتقاء بالذوق، لاشرئباب الرؤى،كي تعانق موسوعيتها، على النحو المسعف بنسج ملامح كهذه جنائزية ومرثاة.

صحيح أنك سرعان ما تكتشف،إبان استكناه كهذه تجربة تنزع إلى دوائر الخفي والزئبقي والنافر، ما يشبه العبث داخل حدود اللعبة الكلامية، بالخيوط الناظمة، ولكن ضمنيا يتضح لك العكس، وتكون محظوظا متى اصطدمت،بلازمة تزكي هذا التناسق والتسلسل التيمي، يربكك دفق الإيقاع البصري، المانح لهذه الشعرية روح الانغلاق على فلسفة الفقد.

يقول صاحب مقدمة ديوان ” دموع الكرز “، أحمد الرجواني :

[ومن خلال عناصر اللغة والأسلوب والإيقاع والصورة الشعرية والعواطف، تبدو لنا جلية أهمية  ديوان ” دموع الكرز ” الذي نعتبره إضافة نوعية مائزة في التجربة الشعرية المغربية الحديثة، لأنه إذا كان من الوفاء للشعر في العالم كله وبكل اللغات ارتكازه على مقومات اللغة والإيقاع والصورة الشعرية والعواطف،فإن هذا المؤلف يستجيب لكل هذه المقومات،ويضيف إليها مسحة غربية في التعاطي مع الموضوعات الذاتية المنفتحة على الروح كأفق انتظار انعتاقا من كل تيه يؤدي إلى الانكسار.].

بل أحسبها كتابة منبثقة من رحم الانكسار، وهذا ما يبرر غموضها، ومحاولات تعويد المتلقي وترويضه على نبذ الجاهز من معاني الذات والحياة .

وحتّى أنسنة عناصر الطبيعة والجمادات، لدي شاعرنا، تتم على هذا الأساس،وضمن هذه القوالب، وتجود بها كهذه صياغات،لا تعبأ بالمتلقي، فقط تتنفس فضاءاتها،مزهوة بالملمح النخبوي، محرّضة على الارتقاء ذوقا ورؤى.

نقرأ له المقطع التالي :

[يتسلق صدري لهيب

يندلق أحزانا عتّقن

بلظى الجحيم

صاعدة إلى الأفق اليقين

غريقا تُركت

داخل غرف موتى

أوهام البرج اللعين] (4).

وقوله كذلك :

[“إيرينا

رؤيا بين الظلمة والنور

فقأة

شمس الخريف

عذابا في أرض الريح

هوس بطعم الماء والملح

صعودا / هبوطا

تنهيدة الكلمات

ببحّة البكاء](5

).

بذلك، يكتمل نسج المرثاة، أو البكائية، تأسيسا على ذاكرة الفقد، ليكون هذا الرشق ببضع من تفاصيل المعاناة الموشومة بلغة العبور .

قرين يتكرر في النصوص،مانحا زمان ومكان البوح قتامة، مستجلبة لمعجم الغموض،ومستفزة بمقامرة نبش المتون،وغضّ الطرف عن غوايات الهامش، بغية القفز إلى بؤر المعنى،حيث الظل الآخر لذات تثمّر معطى الانكسار،وتشاكس أبديات تصريفه إلى متنفّس وأفق بعثرات واختناق وخسائر وجودية أقل.

الانكسار المعشش في راهن تهيمن عليه ذاكرة اليتم ويستسلم بالكامل، لسلطة اليتم وجبروت نوباته.

احمد الشيخاوي – شاعر وناقد مغربي

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016