-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

مساءات خريفية قصائد تبصمها نرجسية الأنثوي


أحمد الشيخاوي

 أحمد الشيخاوي

إن عوالم هذه المجموعة التي بين أيدينا، في انجذابها إلى أفق الطفولة البعيدة، ومغازلاتها المازجة بين الخطاب السمعي والبصري، تثبت إلى أي حدّ باستطاعة الأنثوي أن يمارس ثورة هادئة خفيضة، كي يقلب بنية مجتمعية بأكملها، ويعلن تمرده المشروع على ثقافة التشكيك  في طاقة المرأة الهائلة، عموما، وقدرتها على كسر الأعراف والقيود البالية.

وهي عوالم موازية هامسة بالوجدانيات، ومكثفة لمعاني وألوان الذات والحياة، تنتصر للبعد الإنساني في أعمق تجلياته، وإن اتخذت من المحلي خلفية لها، لتنطلق فيما بعد صوب الأشمل، مفجرة الأحاسيس القومية، ذودا عن أقدس قضايا العروبة وأشدها حساسية وخطورة.

إنه حضور لا محدود للأنثوي، يلون وجود النوع البشري، ويضفي نكهة ترجيح كفة الإستطيقي، على عبورنا الإنساني، المتخفف من أوزار التاريخ وأخطائه وانكساراته.

تحاول الشاعرة المغربية أم دعاء فريدة مزياني، من خلال باكورتها هذه، أن توسّع دوائر التصالح مع الذات والغيرية والكونية، باعتماد نفس نرجسي مخملي، يعتني باللغة والصورة والدال الشعري، تفصح عن هذا التوجه، وتدافع عن هذا المذهب في أكثر من مناسبة، مثلما سنقف على مدلولات ذلك، في التماعات متفرقة من المجموعة.

تقول وهي ترسم صورة للوجع المشبع بسيكولوجية الفقد:

[أيا زمني

احفر قبرا للوجع

وأبعد رفرفة النوارس

عن شطي الحارق الثائر

فهذه أمي

سُرقت

مثلما يُسرق القمر

وأكثر] (1).

كأنها عجالة وجودية، تقترح معطيات معينة، دون أن تبرر جدلية الحياة والفناء، بيد أنها تلمّح إلى دور الشعر ووظيفته الجمالية، وعمق مخزونه ولانهائية أوعيته، المعدة سلفا، في تلافيف اللاوعي البشري، لأجل احتواء وامتصاص أمرّ الصدمات وأقواها، كضرب من امتحان يكابده الكائن، يدلل على فراغات الأمومة ومشاهد فجائعيتها.

إنها تقيس القصيدة بمنسوب، ما يمكن أن يخسره الكائن، ومن ثمّ فهي تكتب بدم، لا بحبر.

 كما نقرأ لها في موضع ثان، قولها :

[استهوتني لعبة الصمّ البكم

واضطررت أن أسكن ذاتي

أغترب فيها؛

أن أومن أن الزلاّت

لا تورث الكره

لكنها تسدل السّتار

وتضيع بذلك الفصول والمشاهد

وسط دمار القلوب

والمباني

والقيم] (2).

تنخرط إبداعيا في سرب المناهضين لفكر التطرف والغلو، تنبذ معجم الكراهية بكل ألسنه ولغاته، كي تحط مثل عصفورة لا تجيد سوى الترنم بميكانيزمات الأنثوي المزدان بفوقية نرجسية، تستلم لمثل هذه العفوية والبراءة في إدمان الشعر، ومنحه الرمزية التي يستحقها وأكثر.

تثرثر شاعرتنا بقلب يغوص في بيادر الطفولة البعيدة جدا، لذا نجدها وقد نبست بها هكذا ودون تفكير حتى، في أقصى زوايا عتمة الذات والحياة، بحيث عبّرت أو صاغت فشلها في الحب كمفهوم مطلق، يتسامى عن النسبية، لكنها في المقابل أكدّت تفوقها في إدمان الحرف والانتشاء بثمالة متاهاته.

والأكيد أنه اعتراف يفيد النفي، كون فشلها في الحب، إنما يمرر علينا تجلياته، ويشوكنا بحضوره، على نحو عكسي ومقنّع، يضع القصيدة كتوأم لتيمة الحب في شتى تلاوينه، ما ينعكس بالإيجاب، إن كتابة أو أنوية أو هوية ووجودا.

كما نقتبس لها كذلك :

[لنا عيناك

أيا قدس

وجرح عطر ذكراك

أيا أنس

رتّق فتوق النّياط

ليشهق قلبي

حدّ الصهيل

ويرقص على أنغام خشخشة الورق](3)

إنها حرقة القضية ، تدمي القلوب وتدين العالم برمته.

تجرف بكامل هذه اللعنة والسخط، تدق ناقوس الخطر، وتتغلّف بجرأة زائدة، تشير إلى مكمن الخلل، لا تجانبه، باعتبار القضية الفلسطينية أكبر من الشعر والهوية حتى، وبرودة التعامل معها، والتقاعس عن فكّ شفرتها وأسرارها ورموزها، إنما يفوت على الإنسانية وليس فقط العروبة، مكتسبات جمّة ويقود صوب انقراض كلي وقيامة معجلة.

إن شعر القضية يجب ألا تمتطيه الإيديولوجية المكرسة لكل هذا الذل العربي والهوان الكنعاني والتكاسل الإنساني، بشكل مجمل.

مثلما نقطف لصاحبة المجموعة، قولها، أيضا :

[كأن وهج الحرف

رديف حلكة

لا يزهر إلا كلما ادلهمّت الظلم

واستبدّ الهيام

كأنه ذبالة

حملت دفقه

بياضا يبابا

كأنما الليل جمر

ترافقه الأنجم](4).

بمختصر القول، إنها سلطة الشعر، وجبروت الحرف.

الكتابة المغدقة بولادات ثانية وموازية، تنتجها قوالب الأنثوي، مدججا بعنفوان كامل وغير منقوص ، يفيض بمثل هذه الغواية.

نقرأ لها في مناسبة أخرى:

[من قال أني بحاجة لأجنحة

كي أطير

أنا القمحية

عاشقة الكروم والتراب

والعبير](5).

هكذا نتبين عبر هذه المجموعة الجميلة، محاولات تلميع صور الذات والحياة، في نطاق ثقافة الذود عن الأنثوي ومعطياته.

وهي كتابة واعدة، مثلما تبرز ذلك آخر محطات الديوان، في فضاء تجربة تراهن على تنويع الخطاب وتوسيع الرؤى، بالاتكاء على المفردة الصافية المبتكرة وإن جاورت قواميس اللفظ القشيب، وجدّفت تبعا لتيارات السجع في عدد من منصات القول الشعري.

ممارسة مفتوحة على مجالات التحول والتطور، عدل ما تراكمه من تجويدات الانغماس في الخطاب الهذياني، أو الكتابة الذهنية، مركّزة على "الحِلمية " كشرط أساسي يرتقي بجنس الشعر، وإن أبحرت الذات في الواقعية وأوغلت في الصميم الإنساني.

_______

هامش :

(1)مقتطف من نص " القدّيسة ".

(2)مقتطف من نص " وشوشات حانية ".

(3)مقتطف من نص " أيا قدس ".

(4)مقتطف من نص " صدى الروح".

(5)مقتطف من نص" مسافرة ".

* مساءات خريفية (شعر)، فريدة مزياني أم دعاء، منشورات جامعة المبدعين المغاربة، طبعة2020.

*شاعر وناقد مغربي

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016