بقلم: موريل روكسيل-ماريا بوبوفا / ترجمة دلال رمضان
وبالرغم من وصف الشاعر الروسي (جوزيف
بروسكي) للشعر بأنه "أداة لتطوير ذائقتنا الأدبية"، كما هو حال
الشاعر الأمريكي (جيمسديكي) الذي وصف بدوره الشعر قائلاً :"يتيح الشعر للفرد
أعمق أنواع التملك للعالم "
إلا أن ردة فعلي، في يوم الثلاثاء الصيفي ذاك، لم
تكن مستغربة على الإطلاق. لأن مجتمعنا يضمر نوعاً من المقاومة الغريبة للشعر. بل
وربما الرفض المتعنت لفكرة احتواء الشعر على ما وصفه الشاعر الانكليزي (ويليام
ووردزوورث) بـ "النَفَس والروح المرهفة لكل المعارف" وهذا
ماعرضته الشاعرة الأمريكية (موريل روكيسر) في كتابها المعنون بـ (حياة الشعر) والصادر
في عام ١٩٤٩، حيث قالت: "إنه رفض يتسم بالخوف"
إن كتاب ( موريل) هذا يعد اكتشافاً رائعاً وبالغ
الحكمة لكل الأشكال والأساليب التي نُبعد بها أنفسنا عن تلك الهِبة المتمثلة بذلك
الفن الأساسي، المتغلغل في الروح، والملم بالحقيقة، والذي لايمكن الاستغناء عنه.
تستهل (روكيسر) كتابها قائلة:
إن الشعر هو الطريقة التي تُشعر البشر بتلاقي
ضمائرهم مع العالم. وهو الذي يشعرهم بقيمة معاني مشاعرهم وأفكارهم، وبجدوى
علاقاتهم مع بعضهم البعض. هو فرصة للإحساس بعذوبة الأشياء واحتمالاتها المتعددة.
فالشعر فن يهبنا كل هذه الأشياء. لكنه، للأسف، فن منبوذ في مجتمعنا. لقد حاولت
جاهدة، في كتابي هذا، تتبع أساليب رفض الشعر. بدءً من كل أنواع الملل، ونفاد
الصبر، ناهيك عن إطلاق صفات كالنخبوية، والغموض، والاضطراب، وإثارة الشبهات على
الشعر. فهل ثمة ما هو حقيقي من بين تلك الصفات، وهل يمكن أن يفضي ذلك إلى إفساد
إدراك الإنسان؟ يمكننا أن نلاحظ أن آراءً كهذه من شأنها أن تؤدي إلى تقييد ملَكة
الخيال لدى الشاعر وجمهوره، على حد سواء.
أما في سعيها للوقوف على أسباب الرفض للشعر، تعرض
(روكيسر) أوجه الشبه بين الشعر والعلم قائلة:
تتشابه روابط الشعر، إلى حد كبير، بروابط العلم. و
لا أقصد بذلك النتائج العلمية، بل أعني نقطة التلاقي بين كافة أنواع الخيالات،
والتي يمكن للشعر أن يمنحها لقرائه. في الوقت الذي تتكون فيه السيمفونية، مثلاً،
من مجموعة من النوتات الموسيقية، والنهر من عدد هائل من قطرات الماء، لا يمكن
للقصيدة أن تكون مجرد الصور والكلمات الواردة فيها. فالشعر يعتمد في وجوده على تلك
الروابط المتحركة بداخله. هو فن يعيش في زمنه. يعبّر ويستحضر تلك الروابط المتحركة
بين إدراك الفرد والعالم. إن آلية عمل القصيدة تقوم على نقل الطاقة الإنسانية. و
أظن أن بمقدوري تعريف طاقة الإنسان بكونها قدرته على الإدراك، وعلى إحداث تغيير في
ظروف وجوده.
إن تقبل معاني الشعر من شأنه أن يمهد لاستخدام
الشعر كتمرين للاستمتاع بإمكانية التعامل مع المعاني الأخرى في العالم وفي حياة
الفرد بطريقة مختلفة. من الطريف أن نلاحظ أن كافة الأسباب التي عرضتها (روكيسر) في
زمن نشر كتابها عام ١٩٤٩ لا زالت موجودة في زمننا الحالي بشكل أكثر وفرة وإلحاحاً
من ذي قبل.
في اللحظة التي نواجه فيها آفاقاً وتضادات أكثر اتساعاً مما سبق، غالباً ما نلجأ لمصادرنا الخاصة التي هي مصدر قوتنا. لننظر، مرة أخرى، لأماني الإنسان ومعتقداته. وتلك المصادر هي التي يمكن لخيالنا، من خلالها، أن يقودنا للتفوق على أنفسنا.
إذا حدث وراودنا شعور بفقدان شيء من تلك
الوسائل، فربما يكون سبب ذلك الشعور هو عدم استخدام إحداها، أو ضرورة إيجاد الكثير
منها والبدء باستخدامها هي الأخرى.
لطالما قيل أنه يتوجب علينا استخدام طاقاتنا
البشرية، و بأن ثقافتنا هي التي تحثنا على استخدام كل مافيها من ابتكارات وحقائق.
ولكن، ثمة نوع من أنواع المعرفة الثمينة، المتمردة، والتي تفوق الأوابد الأثرية في
قدرتها على تحدي الزمن، والتي يجب أن تتناقلها الأجيال فيمابينها بأية طريقة تكن،
ألا وهي الشعر.
تعود (روكيسر) هنا للحديث عن الدور الفردي للشعر،
وعلاقته بالعلم وباقي الفنون، لتقول:
ولأن من الصعب أن نوقف هذا الكم الهائل من الأحداث
والمعاني التي تحدث كل يوم، آن الأوان لنستذكر شكلاً آخر من أشكال المعرفة
والمحبة. هذا الشكل الذي لطالما كان وسيلة لبلوغ أقصى أنواع المشاعر والعلاقات
تعقيداً. وهذه الوسيلة تشبه غيرها من العلوم والفنون، بيدأنها تمتاز عنها بقدرتها
على تأهيل خيالنا للتعامل مع حيواتنا. وأعني بتلك الوسيلة الشعر.
بعد ذلك، تعرض ( روكيسر ) تعريفاً لا غنى عنه لطبيعة ومغزى الشعر في وجهة نظر عرضها الفيلسوف والكاتب البريطاني (آلان دي بوتون) بعد ما يقارب النصف قرن من الزمن. يقول (بوتون):
" يحمل الفن وعداً بالكمال
الداخلي" وفي هذا الصدد تكمل (روكيسر) حديثها قائلة:
إن الشعر، فوق كل شيء، هو مقاربة لحقيقة أحاسيسنا، ولكن، ماهي جدوى تلك الحقيقة؟ مهما بدت مشاهد حيواتنا مربكة أو مشوشة، ومهما كنا، نحن الذين نعيش تلك المشاهد، منهكين، بإمكاننا مواجهتها والسير لبلوغ الكمال.
إن ذلك الخوف الذي يجعلنا نرفض الشعر هو خوف متعمق في ذواتنا منذ أواخر مرحلة طفولتنا
تذهب ( روكيسر) إلى اعتبار الشعر فناً يحظى بأقل قبول بين غيره من الفنون. وتعزو ذلك الى ارتباكنا الأبدي أمام عواطفنا. فضلًا عن تشبثنا الخاطئ بفكرة فصل العاطفة عن الفكر.
أما فيما يتعلق بأصل رفضنا للشعر، والمتمثل بذلك
الخوف الذي يعبر عن خلل نفسي، تقول (روكيسر):
إن القصيدة الشعرية ليست دعوة فقط، بل هي ضرورة
ملحة. فما الذي تدعو إليه القصيدة؟ يمكن للقصيدة أن تحرك فينا العواطف والأحاسيس،
بل وربما تتطلب منا استجابة شاملة، وهذه الاستجابة الشاملة لا نصل إليها إلا عن
طريق المشاعر. كما أن القصيدة المكتوبة بعناية غالباً ما تستحوذ على خيال قارئها
فكرياً. فعندما تدرك القصيدة فكرياً، هي تسلك طريقها إليك عبر المشاعر أو مايمكننا
تسميته بالأحاسيس .
ولفهم ذلك، ينبغي عليك ،عزيري القارئ، أن تلقي
نظرة على النسخة الأصلية من رواية (الأمير الصغير) للكاتب الفرنسي (أنطوان سانت
إكزوبيري) والصادرة عام ١٩٤٣، والتي تنتمي للأدب الكلاسيكي للطفل، والمكتوبة بلغة
شعرية رقيقة تلامس القلب. إذ يقول كاتبها:
سيشرق الأمير الصغير على الأطفال بذلك النور
الطاغي الذي سيلمس فيهم شيئاً آخر سوى عقولهم. حتى يأتي للوقت المناسب ليستوعبوا
ماحدث.
وفي العودة إلى أولئك الذين لا زالوا يستنكرون
الشعر، تمعن (روكيسر) النظر في ما أسمته "جذور التواصل" عبر تعريفها
للشعر بما يلي:
ينبع الشهر من أعماق ناظمه، إذ يخيل لقارئ الشعر
الحقيقي أن مشاعر الشاعر تخاطب مشاعره .
وبما أننا قد حُرمنا تلك الهبة، ألا وهي الشعر،
تعيد الشاعرة (روكيسر) صياغة مقولة الرسام الإسباني (بابلو بيكاسو)
الشهيرة " كل طفلٍ فنان" بطريقتها الخاصة . فهي ترى أن كل طفل
هو مشروع شاعر، إذ تقول:
إن ذلك الخوف الذي يجعلنا نرفض الشعر هو خوف متعمق
في ذواتنا منذ أواخر مرحلة طفولتنا، إذ لم نكن نمتلك ذلك الخوف من قبل. فالطفل
الصغير لا يعرف هذا الخوف لأنه يثق بمشاعره. بيد أن الحواجز تُبنى على عتبات مرحلة
المراهقة. أما في سن الرشد، فغالباً ما يرمي الناس الشعر وراء ظهورهم. ولا أعني بذلك
المعنى الخرافي للكلمة، أي كما يتخلص الأطفال من ألعابهم القديمة، بل أقصد تلك
القناعة الصادمة بكون الشعر يقع خارج نطاق اهتماماتهم.
ولا عجب أن يقوموا بازدراء الشعر أثناء جلوسهم في
المقاهي. وهذا الازدراء متأصل فينا جميعاً. لأننا لم نتعلم حب الشعرفي مدارسنا
البتة. وهذا ما يجعل (روكيسر) تكرر عبارة الكاتب الأمريكي (ريتشارد بوكي منستر
فولر) بشكل شبه حرفي. لتعرض، مرة أخرى، أوجه الشبه بين العلم والشعر، حيث تقول:
إن ثقافتنا في التعليم ثقافة تخصصية. فهي تعمل على
تزويدنا بمعلومات وخبرات في مجال محدد دون غيره من المجالات. وهذه الخبرة تؤهلنا
للتعامل مع مشكلات محددة هي الأخرى. إذ تسمح لنا بمواجهة الواقع العاطفي والواقع
الرمزي بشكل خجول.
يمكن لعالم مبتدئ، أو كاتب محترف أن يتساءل
قائلاً: كيف يمكنني الحكم على جودة قصيدة بعينها ؟ بإمكاني الجزم بجودة الأشياء
الواقعة في مجال تخصصي، بيد أنني أجد نفسي غير قادر على الجزم بكون قصيدة ما جيدة
أم لا. أما في الرد على تساؤل كهذا ، فيمكننا القول بأن من قاموا بطرحه هم أناس
يفتقرون الثقة بمشاعرهم ورود أفعالهم.
إن فقدان ثقتنا بمشاعرنا هو نوع من أنواع انعدام
الشعور بالأمان. ولن نتمكن من التخلص من شعورنا الداخلي بافتقارنا إلى الكمال، إذا لم
نكن قادرين على دمج كل العناصر المكونة لشخصياتنا من أجل تحقيق التكامل الذي تشكل
ملكة تذوق الشعر جزءاً منه.
إن هذا الجمع بين العناصر التي تتحرك سوياً وفق نظام مرئي أصبح واضحاً في كل العلوم ، فلا عجب أن يكون حاضراً في كتاباتنا أيضاً. و أينما وجد، فبمقدوره أن يعطينا نوعاً من الخيال الذي يمكننا من التلاقي مع العالم. كما يعزز قدرتنا على التعامل مع أية وحدة مكونة من عناصر متعددة، تعتمد في وجودها على بعضها البعض.
___
المصدر: منصة تكوين
إرسال تعليق