كتابة الوجع والهم الإنساني في مجموعتي القاص الأردني سمير الشريف( مرايا الليل) ,
و( مسا), وتقنيات القصة القصيرة جدا.
الناقد عز الدين ميرغني
للقاص الأردني ‘‘ سمير الشريف ’’ أكثر من مجموعة قصصية, ومنهما مجموعة ‘‘ مرايا الليل ’’, ومجموعة ‘‘ مسافات ’’, وقد تضمنت مجموعته مسافات, خبرته وتجربته , في كتابة القصة القصيرة جداً. ‘‘ ق - ق - ج ’’. تركزت هذه النصوص, في تقنيات ما وراء القص. بحيث يكون البطل والشخصية المحورية فيها تمثل الجماعة المنسية والأقل شهرة في مجتمعاتنا العربية. وقد تنفتح الدلالة وتصبح الشخصية المنسية هي الوطن نفسه. وتصبح دلالة العتبة الأولى وهو عنوان المجموعة ‘‘ مسافات ’’, أو ‘‘ مرايا الليل ’’, يمثل المعادل الموضوعي لفقدان ووحدة الفرد داخل الأمة, أو فقدان الوطن داخل ذهنية الفرد . وكلاهما تبتعد عنه المسافة وتصبح ‘‘ مسافات ’’. وتتغبش المرآة ويصيبها العمى في منتصف الليل .
ويمثل العنوان إذا كان عتبة النص الكبرى, أو العناوين الصغيرة للنصوص والتي تمثل العتبة الصغرى, تمثل الدلالة المفتوحة التي تجعل القارئ للنصوص يمتلكها ويصبح حراً في التمعن والتفكر فيها. فالقاص "سمير الشريف" من الذين يعنونون نصوصهم. فالعنوان وحدة مضمون ومعنى قائمة بذاتها. لا تكشف داخل النص إلا بعد القراءة. ولقد عرفت الناقدة المغربية ‘‘ سعاد مسكين ’’ القصة القصيرة جداً, في كتابها ‘‘ راهن القصة القصيرة جداً في المغرب ’’, بقولها ‘‘ القصة القصيرة ليست موضة une mode , في الكتابة السردية الجديدة, ولكنها un mode ويعني المصطلح الفرنسي بأنها صيغة جديدة للكتابة. وهذه الصيغة الجديدة في الكتابة, لها أولوياتها الجوهرية, والتي يجب أن تكرس كثوابت ومتعاليات, أظهرتها نصوص القاص ‘‘ سمير الشريف ’’, في الكثافة اللغوية مع عمق المعنى وتوسع الرؤية. ولعل مثل هذه النصوص الجادة والرصينة , تكشف عن خصوصية وميزة القاف, قاف, جيم عن بقية الأجناس السردية وخاصة القصة القصيرة العادية. the short story . . ولعل مثل هذه النصوص, والتي تمتاز بها مجموعتا مسافات, ومرايا الليل , تجعل من مزايا هذا النوع السردي, الجرأة وطرح الأسئلة والفكرة المقصودة لتحرك الوجدان الإنساني. يقول في نص ‘‘ رسم ’’, { في الحصة بحثت عن ألوانها, رسمت بيتاً تشتعل فيه النيران, وجسماً غير محدد الملامح, قالت للمعلمة إن الاطفائية لم تتمكن من الوصول إليه, ظلت الطفلة تبكي لعبتها حتى أوقفها نداء الجرس }. فالمعنى العميق في قمة إنسانيته المفتوحة فهنالك منزلاً محترقاً لم تصل إليه يد الإطفاء. وهذا المنزل بداخل الطفلة والتي لم تجد من ينجدها فأبقته مشتعلاً. وقد ترمز الطفلة للوطن أو لأمة كاملة تحترق دون تجد من ينقذها. فأغلب نصوص هاتين المجموعتين للقاص سمير الشريف تدعو لإعمال الذهن عند التلقي. فهي دون شك نصوص الانعكاس الذاتي لفلسفة القاص وأفكاره التي تأثرت بما يلتقطه من مواقف إنسانية تمر به عبر تجاربه الحياتية.
إن النصوص القصيرة جداً, عند القاص سمير الشريف, تمثل الجانب التخييلي للعالم وللحقيقة. فالنص عنده فعل كلامي مراوغ, ولكن لا ينفي هذا التخييل, أن هذه النصوص تحوي بين طياتها ومعانيها الخفية, الإحالة والمباشرة والجدية والوقائعية كمكونات لعناصر تتحد مع المتخيل ليصبح المتخيل واقعاً. التقطه الكاتب من زاوية الرؤية القادرة على التقاط المواقف الإنسانية الحية. يقول في نص ‘‘ محاولة ’’ .. { ظل الغصنان يحاولان أن يتصافحا في الأعالي, غير أن مخبراً أمعن في قصهما شكاً في ذلك اللقاء المريب }, فهنا يستخدم القاص تقنية الترميز العيني, بحيث يمثل النبات الإنسان المراقب واللاحر في حياته. ولعله نص مفتوح الزمان والمكان , بوجود اللا حرية. ونصوصه تتجاوز المقصدية الإخبارية إلي المقصدية التواصلية. بواسطة الكذب الفني الجمالي الذي يبتعد عن التقريرية الفجة والساذجة. إن نصوص القاص سمير الشريف توصلنا بهدوء إلي المعنى, بعيدا عن الخبرية التي ليست من مهمة القصة القصيرة جداً. يقول في نص ‘‘ رعاية ’’, { تقدم الصفوف .. ليصلي على جنازة خالته .. تمتم طويلاً .. ثم استدار قائلاً .. ما اسم المرحومة ؟ } . فالخبر هنا ليس مقصوداً, وإنما المقصود هو الإحالة إلي واقع يحدث, وهو الجحود ونسيان الأهل وقطع الرحم واللا تواصل. فالوقائعي هنا ذاب مع المتخيل واكتسى طابعاً جديداً استوعبته طاقة القص القصير جداً ولا يمكن لغيرها أن يستوعبه. فالتخييل الذي يمتلكه الكاتب في أغلب نصوصه القصيرة جداً , قد استفاد من الحقائق الواقعية والفلسفية والحياتية اليومية التي يعيشها الفرد في كل مكان وزمان. وهذه الحقائق والتي في غالبها قد تكون مؤلمة وما يزيدها ألماً , هو نسيانها. رغم مرورها اليومي علينا, ولكن عدسة الكاتب الحساسة والإنسانية هي تلتقطها لنا مكبرة . يقول في نص ‘‘ رصيف ’’ .. { ارتبكت الطفلة التي داهمتها المظاهرة .. ولم تدر أين تخبئ أشيائها التي تبيعها على الرصيف ؟ }. فاللحظة الإنسانية المنسية حتى لمن خرجوا في المظاهرة , أن هنالك طفلة تبيع في الرصيف , وهذا يمثل قمة المأساة , وهي مفتوحة للتخيل, يتيمة, أو تعول عجزة, أو . أو . فكان أولى أن يهتم بها من يتحدثون بصوتها . وهذا النص, يؤكد مقولة النقاد الذي يرون بأن القصة القصيرة جداً هي في النهاية قصة, لها بداية ووسط ووحدة موضوع . فالذي يحقق أركان القص هنا, هو وجود شخصية تبيع , وتخاف من المظاهرة , وترتبك وتسأل أين تخبئ بضاعتها ؟ فهنالك بداية وهنالك قفلة, وهنالك درامية في الحدث, أن تتخيل مدى الرعب الذي أصابها, والذي لا يبرره عندها الأهداف السياسية للمظاهرة .
إن النصوص القصيرة جداً عند الكاتب سمير الشريف, هي نصوص الخبر الجمالي البعيد عن التقريرية والتي كثيراً ما أضرت بكتاب القصة القصيرة جداً في العالم العربي, وهذه الخبرية البعيدة عن الجمالية هي التي تحول القصص القصيرة جداً إلي خواطر بعيدة عن الحكائية. وقد تقود إلي ضياع الفكرة وفلسفة القص. فالنص عند القاص سمير الشريف يمتاز بالوحدة, وحدة الحبكة والعقدة , لأن تعدد الحبكات والعقد والحوافز يقود إلي الترهل. وهذا ما تمثله مجموعة ‘‘ مسافات ’’, أكثر من المجموعة الثانية ‘‘ مرايا الليل ’’ والتي يمكن تحويل بعض النصوص فيها إلى قصص قصيرة عادية . يقول في نص ‘‘ مواسم ’’{ في كل ليلة تضيء أرواح المعجبين بكتاباتها .. في آخر السهرة تتحسس ندوب وجهها, التي تحول دون لقائها بأحد .. وتغرق في بكائها المر .. } فاللغة هنا مكثفة, ويمتاز النص بوحدة الموضوع, فالشخصية كاتبة تعجب نصوصها الآخرين, وتستضيء بها في ليلها الذي يبدو طويلاً , ولكننا نكتشف في النهاية أنها رغم كل هذه الشهرة فهي وحيدة وصارت متقدمة في السن, ‘‘ تتحسس ندوب وجهها ’’. ونكتشف تقنية المفارقة في هذا النص حيث أن الشهرة والكتابة لم تجلب لها الأمان والراحة النفسية ووجود الآخر في حياتها. وهذا النص وغيره من النصوص يكشف الضعف البشري الموجود عند الإنسان حيث الوحدة والنسيان والتجاهل من الآخر واللا تواصل هي العلل التي تفتك بالبشرية في عصرنا الحديث. يقول في نص ‘‘ اكتفاء ’’ { لم تجد ما يدفئ وحدتها , اكتفت بأن أشعلت اشتياقها وبكت } . فهو نص حزين ومؤلم ولكنه يضرب في وتر الإنسانية التي تعاني من ألم الوحدة ومكابدة الحنين والشوق والذي لا تجد غيره ما يدفئها والبكاء دليل العجز واللا حل. وفي نفس المعنى يقول نص ‘‘ وحدة ’’ { تطل على فضاء الليل .. تستعرض من مروا على عمرها .. تتحسس تجاعيد وجهها .. ترمي رفوف الكتب بنظرة حقد .. وتطفئها بآهة ندم .}.
تمتاز نصوص المجموعتين, باستخدام الجملة الفعلية والتي تحرك الحدث إلي الأمام, والجملة الاسمية والتي يأتي خبرها جملة فعلية. وهذا الاستخدام أبعد أغلب نصوصه عن الترهل { الصبي الذي يحرمه رب العمل من أجرته .. قرر أن يستغل غياب الرئيس ويزرع الساحة بالمسامير }. فالنص به أكثر من فعل يحرك السرد إلي الأمام ويقود الحبكة إلي القفلة حيث يزرع الساحة بالمسامير. فالجملة الفعلية تقود إلي التكثيف والاختصار في أغلب نصوص القاص سمير الشريف, وهذا التكثيف يسرع بها مباشرة إلي اللحظة الدرامية وذروة الحدث, والوصول بسرعة إلي ثمرة القصة اليانعة. ومن هنا المفارقة والقفلة المفاجئة الوامضة الموجعة الضاربة في الأغوار. يقول في أحد نصوصه الموجعة والتي تنبه الغفلة { أصوات المدافع لم تتوقف, جثث تملأ الطرقات، جروح يأكلها العفن, ذعر وبكاء وراية عجز . تناقلت الأنباء خبر جرح مراقب دولي, تدخلت كل الأطراف لإخلاء الجريح .}
إرسال تعليق